بقلم: نشوى الحوفى
فى تسعينات القرن الماضى قدم السيناريست وحيد حامد فيلم «المنسى»، وجسد فيه الفنان عادل إمام دور شاب بسيط يعمل كمحولجى بالسكة الحديد يعانى ضيق ذات اليد وقلة الحيلة، التى جعلته يتناسى أحلاماً فى زواج وحصول على شقة وإنجاب أطفال. كان المنسى -وهذا اسم البطل- اسماً على مسمى لمواطن نسيته الدولة ونسى هو الآخر طريق إمكانية تحقيق الأحلام التى لم تخرج عن إطار رؤيا فى منامه. فعاش على هامش الحياة كملايين غيره فى مجتمع نسى الاهتمام بغد ساكنيه.
وكان ما كان....
ولكن شاءت الأقدار أن يتعرف المصريون على منسى آخر عاش الواقع وتحدياته لا خيال المؤلفين ودور العرض السينمائى، فى ظروف أخرى وأحوال مختلفة، أحالت المنسى المهمش إلى منسى البطل الذى صار قدوة أجيال لا جيلاً واحداً. وبات رمزاً لبطولات جيش من أقدم جيوش العالم وأعرقها. ولكن للأسف جاء التعرف على منسى الألفية بعد رحيله عن عالمنا، لنبكى جهلنا به وبمن هم مثله. ونتضرع لله أن يرحمه ويرزقه جناته بحق عطائه وتضحياته التى لم تمنحه رغد الحياة رغم بلوغه العُلا.
نعم عاش «منسى» بيننا واحداً من أبناء مجتمع يرى غالبيته فى العسكرية شرفاً يتمنى الانتماء له. جاء منسى ليعيش نفس ظروف ومشكلات وآلام السعى وراء الأحلام وإثبات الذات. ولكنه كان نقى الفطرة سليم النية حاد البصيرة، فأدرك أن حكمة الحياة ومنتهى السعى فيها ومبلغ العطاء لها أن ينال رضا الخالق لا المخلوق. فسعى المنسى فى خطاه لله وللوطن ولأهله -حتى لو لم يكونوا ذوى قربى- فرفض الانحراف وراء شياطين البشر والجان، وما اعترضه من مجريات الحياة، فكانت النهاية التى أكرمه الله بها شهيداً مدافعاً عن كلمة حق، قاتلاً لباطل، دون أن نسمع عنه شيئاً فى حياته. عاش مناضلاً بلا ضجيج ولا استعراض ولا افتراء. فكان «فدائى» يسير بيننا دون أن نلمحه فى أى مشهد للحياة... ويا ليتنا لمحناه.
دافع منسى...العقيد أحمد صابر منسى، عنا وعن أمننا بنفس راضية. عشق الوطن وتاريخه فأجاد قراءة سطور الواقع والمستقبل وما بينهما فمنحه الله البصيرة، حتى حينما أدرك أنها النهاية استسلم للقدر ولكن دون خضوع لمجريات الغدر. فإن كانت لحظة النهاية قد حانت وفرضت ملامحها فليرحل وهو كما اعتاد أن يكون.. بذات شهامته ورجولته دون تراجع عن واجب أو تخل عن مسئولية. وهكذا تحول منسى الألفية من بطل إلى رمز لوطن وجيش وشعب.
وطن يفخر أن جاد الزمان بمن هم مثله فحملوا هويته. وجيش يعتز بمنسيه وكل من يمثلهم فيه وإن مر الزمان ودار ونسى الناس. وشعب يبحث طيلة الوقت عن قدوة تمنحه بوصلة الطريق ليكمل مسيرته، يحمى أرضاً ليس له سواها. صار منسى رمزاً تتضرع الأمهات أن يكون ولدانها كمثل الرجل، وتتضرع عيون الشباب أن يحيا بينهم ليقودهم ويعلمهم ويقوم مسيرتهم إن لزم الأمر.
عاش منسى دون أن نشعر به أو بفعله رغم العظمة. ورحل تاركاً سيرته ومساره لندركه بعد فوات الأوان، فنتمنى لو أننا أدركناه. ولكن تلك هى شيمة العظماء.. يعملون فى صمت ويحيون فى تواضع ويسيرون بين الناس وفى طرقات الحياة عطاءً بلا ضجيج ولا مقابل ولا إعلان. اشتروا الحياة الأبدية لا الدنيا المؤقتة. وارتفعت عيونهم للسماء تضرعاً بقبول عمل لا يراه ولا يعلمه إلا من خلقهم. فعاشوا كراماً تحت ظل علم دفعوا الحياة ثمناً له وإن تطاول الجهال عليهم أو كان غدر الأرذلين.
ولذا فدعائى لى ولكم أن نعيش.. «منسى».