بقلم: نشوى الحوفى
قد يكون من المثير معرفة كواليس ما جرى فى حجرات البيت الأبيض على مدار تسعة أشهر دخلها جون بولتون، وهو مستشار الأمن القومى للرئيس الأمريكى دونالد ترامب وذراعه اليمنى، وخرج منها وهو مُقال أو مستقيل، محاط باللعنات المتبادلة بينه وبين رئيسه السابق. ففى سابقة غير متعارف عليها أقدم «بولتون» على نشر تفاصيل أيامه فى البيت الأبيض وطريقة تعامل «ترامب» مع القضايا الأمريكية فى كتاب حمل اسم «الغرفة التى شهدت الأحداث». كتاب سعى البيت الأبيض لمنع نشره عن طريق القضاء، ففشل فى ذلك، فلجأ «ترامب» وفريق موظفيه للتشويش على المؤلف والتقليل منه ومن كتابه بوصفه بـ«الغباء والملل».
لا أحد يستطيع أن يجزم بصحة المعلومات الواردة فى الكتاب أو يدعى نزاهتها بنسبة مائة فى المائة، كما لا يستطيع أحد أيضاً أن يعلن أن نية «بولتون» من ذلك الفعل كانت المصلحة الوطنية للأمة الأمريكية، ولكن لا شك أن صفحات الكتاب بها ما يستحق التوقف أمامه.
فالكتاب الذى سارعت وسائل الإعلام العالمية لنشر مقتطفات وعرض له، يصف «ترامب» بالجهل بالجغرافيا، فلا يعرف إن كانت فنلندا دولة مستقلة أم تابعة لروسيا! ولا يعرف أن بريطانيا تقع فى الترتيب الثالث نووياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا! كما أنه لا يتطور بجلسات تداول المعلومات من أجهزة الدولة المختلفة كالمخابرات الأمريكية، حيث يرى «بولتون» أنها لم تأتِ بفائدة، والسبب كما يقول فى كتابه -وفقاً للتقارير الدولية- أن «ترامب فى معظم المناسبات يتكلم أكثر من الخبراء فى أمور لم تكن لها علاقة إطلاقاً بالمواضيع قيد النقاش»..
لا تفاجئنى تلك المعلومات الصادرة على لسان مستشار الأمن القومى الأمريكى السابق عن رئيس أكبر دولة فى العالم. فالرجل منذ أن حلَّ ضيفاً على البيت الأبيض يمارس مهامه ويعبِّر عنها فى تصريحاته بسطحية واضحة. ولكن فى اعتقادى المتواضع أن هذا مقصود منذ اللحظة الأولى لدعم وصول اليمين المتطرف لتصدر المشهد السياسى العالمى للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
نعم لم يأتِ «ترامب» بالمصادفة أو بأصوات الناخبين وصندوقهم، جاء الرجل لينفذ المهام المطلوبة منه فى تلك المرحلة من تأسيس لمزيد من فوضى وتشابك وتعقيد للعلاقات، ومنح إسرائيل المزيد من الامتيازات. الرجل عبَّر عن العنصرية فى الجدار العازل بين بلاده والمكسيك، فى قرار منع مواطنى عدد من دول الشرق الأوسط ذات الأغلبية المسلمة من دخول أمريكا، فى إعلاء روح العنصرية، فى علاقات بلاده بدول أخرى بدعوى استرداد أهمية أمريكا، فى ممارسة الابتزاز السياسى والاقتصادى علناً وعلى مسمع من الجميع؛ حين هدد السعودية واليابان وكوريا الجنوبية بانهيار أنظمتهم إن لم يدفعوا لأمريكا مقابل الحماية لهم! هدد الرجل بخلخلة النظام الأمنى الأوروبى بإعلانه أكثر من مرة الانسحاب من حلف الناتو إن لم يرفع أعضاؤه الأوروبيون مخصصاتهم المالية فى الحلف، أو تقليل عدد القوات الأمريكية فى ألمانيا إن لم تدفع لأمريكا مقابل ذلك. حتى فى أزمة كورونا التى اجتاحت العالم ظهر للأمريكيين قبلنا كيف تعامل «ترامب» بما لا يليق ورئيس دولة هى الأولى فى عدد الإصابات والوفيات إلى الآن عالمياً. حتى أخبار علاقته بروسيا وتأثيرها فى فوزه بالانتخابات، وإعلانه الحرب التجارية على الصين ثم حرب اتهامات التسبب بكورونا، وإلغاء الاتفاق النووى مع إيران على مرحلتين، وإعلانه القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وتوقيعه منح الجولان لها.. وغيرها من المشاهد تمت كلها لتزيد المشهد العالمى إرباكاً وتصارعاً على مرأى ومسمع الجميع.
وبالتالى فإن نشر «بولتون» لكتابه فى هذا التوقيت يبعث على التساؤل عن الهدف منه، حتى ولو حوى الكتاب بعض تفاصيل الأحداث التى لم تتح لأحد معرفتها، فنشر الكتاب الآن قبل أربعة أشهر من موعد إجراء الانتخابات الأمريكية فى الأول من نوفمبر المقبل، بهذا الشكل وفى ظل أزمة تصاعد العنف وبروز مشكلة الفصل العنصرى بعد مقتل مواطن من أصول أفريقية على يد شرطى أمريكى، لا تزيد وضع «ترامب» إلا سوءاً يمهد لخروجه من البيت الأبيض غير مأسوف عليه. ولكن هل يختلف «بايدن» بخبرته عن «ترامب» بفوضاه؟ لا أظن.. إن هو إلا قناع جديد للعم سام.