بقلم: نشوى الحوفى
ما إن ظهر الشيخ رمضان عبدالمعز فى أحد مشاهد مسلسل الاختيار فى مشهد يعظ فيه بعض الجنود فى كتيبة من كتائب الجيش متحدثاً عن ابن تيمية وسوء فهم الناس له واختيار التكفيريين له كمرجعية لفكرهم المتشدد، حتى احتدّت المناقشات بين متابعى وسائل التواصل الاجتماعى بين غاضب من تبرير الشيخ -الممثل للأزهر بالنسبة لهم- لفكر ابن تيمية، وفرح لمن رأى فى حديثه تبرئة ابن تيمية من تهمة التطرف فى مسلسل أُنتج برعاية الشئون المعنوية بالقوات المسلحة -وكأنها شهادة تبرئة- ولكن المتأمل للمشهد بهدوء يمكنه رؤية بعد ثالث للمشهد.
فما قيل لا يعنى أن ابن تيمية برىء من تهمة التشدد والحدّة، فالرجل اتسم بحدّة الطبع وتطرف الفهم لكل ما يؤيد وجهة نظره التى لم يكن لها معلم تستند على علمه، حتى إن والده رفض اعتداده الزائد برأيه وعنفه على حدّته وتطاوله على من يكبرونه، علماً وسناً. وهو ما أكسبه عداء من تطاول عليهم من مشايخ. ولكن مرة أخرى يبقى ابن تيمية مجرد شيخ من مشايخ الإسلام تحدّث فى الدين وأفتى وأصاب وتطرّف وأخطأ فى القرن السابع الهجرى لا القرن الخامس عشر هجرياً، وانتقده كثيرون ممن جاءوا بعده فى فتاوى، وبخاصة فى فقه العقيدة وفكرة التجسيم. ولذا فالعيب ليس فى ابن تيمية، بل فيمن تتبعه ليومنا وهو من سُجن لآرائه وقتها. ولتشدده هذا اختاره الفكر المتطرف كما اختار محمد بن عبدالوهاب بعده بقرون ليكون مرجعية له فى إباحة كل قتل وعنف.
كما أن المسلسل لم يسعَ لتحسين صورة ابن تيمية، ولكنه سعى لتبرئة الإسلام من أى تطرف فى قول أو فعل، فكان المشهد بمثابة إعلان رسمى بأن القوات المسلحة ليست على خصومة مع أحد بسبب الدين والعقيدة، ولكنها فى خصومة مع من يسيئون استخدام الدين لصالح أغراض لا علاقة للتدين بها وإن اتخذوه ستاراً، وأن من ادعى أن ابن تيمية شيخه فى القتل والتطرف فقد أخذ منه ما أراد بسطحية فهم أو تربص جُرم واستغلال لاستباحة دم البشر، فأخرج فتاواه من سياق الزمن والمواقف.
ودليل ذلك هو القراءة فى بعض ما ترك ابن تيمية، على سبيل المثال فتواه فى احتساب قول الرجل لزوجته أنت طالق ثلاثاً على أنها طلقة واحدة حماية لأسرة ومنحاً لفرصة لتفاهم، وفتواه فى رفض المجاملات فى التعيين للمناصب بلا كفاءة. وهى فتوى لم يلتزم بها الإخوان الذين افتضح أمر تكالبهم على الدنيا حين تولوا أمر مصر فلم يعينوا الكفء بل الأكثر طاعة لهم، وجميعنا رأينا تلك المهازل. وهذا يعنى أن التكفيرى اختار من ابن تيمية ما يستند عليه كمرجعية وحجة فى وجه من يجادله.
المسألة، يا سادة، ببساطة تقول إن الإسلام على مر العصور منذ نهاية القرن الأول له وهو يخضع لآراء الباحثين فيه بمن فيهم الأئمة الأربعة ومن تلاهم. وهو ما يعنى أن حرية الفكر معمول بها ومن حق كل من كان يمتلك عقلاً وعلماً البحث والفهم، أما الركون إلى من سبقونا بقرون ولفكرهم فهو تقصيرنا نحن. لقد اجتهدوا ولم يتوقفوا عن البحث والنقد والاختلاف بدليل الأئمة الأربعة ومن تلاهم. وبتوقف فكرنا كان من الطبيعى أن يتخذ كل تكفيرى ومتطرف من الماضى قبلة فيتحدث لغته ويرتدى ملبسه وينسب نفسه للسلف بجهالةمنه.
نعم نحتاج لاختيار الفكر والفهم ورفض كل فهم خاطئ لا يناسبنا حتى وإن كان مصدره ابن تيمية.. نحتاج لهدوء الفكر والحوار لا لغاية إلا الحقيقة.