بقلم: نشوى الحوفى
بادئ ذى بدء لا بد من توجيه التحية لكل فتاة وامرأة أدركت أن صمتها ليس عفة أو حياءً يتوج خُلقها فقررت أن تفضح كل أفاك أثيم اعتاد ممارسة فعله بفجور مستعيناً بخوف الضحية وجهل المجتمع وصمت المؤسسات. التحية لمؤسسات الدولة التى لم تتعامل مع التهم على أنها قضية من الدرجة الثانية أو الثالثة فى قائمة الضرورات، بدءاً من المجلس القومى للمرأة، مروراً بالنائب العام وبيانه المؤثر، انتهاء بقرار مجلس الوزراء الموافقة على مشروع قانون سرية بيانات المجنى عليهم فى جرائم التحرش والاعتداء الجنسى المقدم من وزارة العدل. نعم.. كان الجميع على قدر الحدث فى وقت قصير ليكون السؤال: «ماذا بعد»؟
أهمية السؤال تكمن فى الإجابة عن سؤال آخر مفاده: هل ما حدث موجة قوية أثارت الانتباه لقضية تتعلق بوضع المرأة ونظرة المجتمع لها، سرعان ما ستزول بمرور الأيام، أم أنها وقفة جادة من جميع الأطراف، بما فيهم المرأة ذاتها، لإعادة النظر لها كإنسان لا كنوع؟
نعم.. فعلى الرغم من عدد الضحايا فى القضية التى فجّرت تلك المشاعر فى مصر وتفاصيل الواقعة وما حولها من معلومات عن المتهم وسطوته فى السيطرة على الضحايا وتكرار فعلته فى أكثر من مكان، فإن القضية فتحت أبواب الحياة للكثير من علامات الاستفهام الصامتة منذ سنوات حول تفاصيل أخرى اعتاد المجتمع التعامل معها كمسلّمات.
أولى تلك المسلّمات كانت ملابس الفتاة التى هى السبب فى التحرش دوماً بينما المتحرش مغصوب على أمره وفعله المنحط!! مقولة مسمّمة روّج لها بعض غير قليل ممن قالوا إنهم رجال دين ودعموها عن عمد أو جهل لتبرير حجاب الملبس من دون حجاب الأخلاق، والأخير مُقدم على الأول. وأيدوها لأنها ترفع عنهم مسئولية دورهم الغائب فى إعادة الخُلق والتذكير بقيم الدين لا بمظاهر التدين. بينما غض البصر أمر إلهى وحُسن الخُلق تمام الدين وهدفه، فاستمرأ الفجور وجوده بفتاوى المنتسبين للدين بأن الحلوى هى المذنبة لأنها لم تستر نفسها عن عبث الذباب! بينما لم يسأل الأفاضل أنفسهم كيف نمنع الذباب من الأساس عن الحلوى وغيرها فى المجتمع؟ ولم لا نغلق مقالب القمامة المجتمعية التى يمرح فيها الذباب قبل انتقاله للحلوى؟ ولكن فى منع الذباب وسيادة النظافة مجهود وسعى ونضال بكلمة لا يمتلكون أسسه ولا همته جهلاً أو سبّوبة، فالأسهل أن تتحمل الحلوى القضية ولندع الذباب يرتع فتلك ليست قضيتهم! وبغضّ النظر عن تغير المفهوم من الحلوى المكشوفة إلى السيارة المفتوحة على يد مولاهم عبدالله رشدى!
ثانى تلك المسلّمات كان الصمت الرهيب الذى يفرضه المجتمع ويُجبر الفتاة عليه وكأنها هى المجرمة والمنقوصة والمعيوبة فى حال تعرضها للتحرش؟! ويبدأ قرار الصمت من الأسرة الحاضنة، انتهاء بأقسام الشرطة ملجأ الفتاة فى حال تعرضها لفعل قمىء، وبينهما شارع وعائلة وأصدقاء وجيران وزملاء يرونها فاجرة إن أقدمت على الصراخ؟! وتلك آفة وخيبة ابتلانا الله بها وبررناها لأنفسنا تحت عنوان «ستر الفضيحة»! بينما المفضوح هنا ليس الضحية بل المتهم. ومن هنا وجب التوقف وفقاً للقضية الأخيرة وبعض من أقوال الضحايا فيها عن أن وقائعها تعود لسنوات مضت، ليكون السؤال: وأين البيت بمن فيه؟ أين مفهوم الكبير الحنون فى العائلة الذى كنا ندرك وجوده فنحكى له؟ أين الأم فى احتواء ابنتها وملاحظة التغير على مشاعرها قبل سلوكها؟ كانت أمى رحمها الله تدرك حزنى ولو ضحكت لها وتعلم بكائى ولو نفيت لها. فأين الأم ومجسات استشعارها وحكاياتها مع ابنتها؟ أين المُدرّسة الصديقة الملاحظة لتغير البنات فى المدرسة؟
نعم تحولت القضية إلى «تريند» بلغة هذا الجيل على السوشيال ميديا والإعلام المحلى والعالمى، ولكن ماذا بعد أن تحولت من قطعة حلوى مكشوفة إلى تريند يتحدث فيه الجميع؟ أعتقد أن الإجابة تضعنا جميعاً أمام مسئوليتنا فى إعادة النظر فى كيفية تربية أبنائنا ذكوراً وإناثاً على معنى الاحترام بكل معانيه لنحميهم معاً، وتُلزم ثقافة المجتمع أن تتحول لفضح الجانى لا التشهير بالضحية. وتعلم القانون بأن عليه أن يكون رادعاً ناجزاً كل وقت ومن دون حاجة لقضايا ساخنة تدفعه لفرض ذاته.
لا للتحرش.