بقلم: نشوى الحوفى
لا إمام إلا العقل.. رغم أنها مقولة اختص بها الشاعر العربى أبوالعلاء المعرى، الذى عاش من 363 إلى 449هـ بسوريا، إلا أنها خطرت ببالى وأنا أتابع حالة الاستنفار الممزوجة بهجوم موصول بالسب والشتم ممن أعلنوا أن شيخ الأزهر خط أحمر. رغم أن الأزمة ليست أزمة أشخاص، لكنها أزمة فكر. دون أن يتوقفوا لحظة واحدة للتفكير فى ما يطرح ليردوا بمنطق وعلم على من انتقدوا فكر التجميد الرافض للحوار، إلا لو كان من طرف واحد.. طرفهم هم!
جال بخاطرى ما قرأته سابقاً عن الإمام الشافعى، الإمام الثالث بعد الإمام مالك وأبوحنيفة. وكيف انتهى حاله. فالشافعى المولود عام 150 للهجرة، حفظ القرآن ودرس كتاب «الموطأ» للإمام مالك، وتتلمذ على يديه وسار على دربه، حزن حينما رأى تشدّد البعض لمالك. وقيل إنه سمع عن بعض الناس فى الأندلس -من شدة تحيّزهم لمالك- إن قيل لهم قال رسول الله، ردّوا بالقول: بل قال مالك! هنا أعلنها الإمام الشافعى فى مصر أن مالك بشر يخطئ ويصيب، ثم بدأ فى كتابة كتاب للرد على مالك فى بعض الأمور بالحُجة. وهو العالم مثله والدارس على يديه والعائش فى زمنه لا فى أزمان بعده. وهو ما يقول عنه «الرازى»: «لما وضع الشافعى كتابَه على مالك، ذهب أصحابُ مالك إلى السلطان، والتمسوا منه إخراج الشافعى».
هكذا كانت البداية بطلب إخراج الشافعى من مصر وإبعاده عنها. لكن الشافعى لم يخرج، ولم يتوقف عن نقد كل ما لم تسترِح له نفسه فى حينها. فنقد بعض آراء أبوحنيفة والأوزاعى، وهو ما زاد من غضب التابعين للأئمة عليه، فتركوا عليه العامة يسبونه ويهاجمونه ويدعون عليه!
ما أشبه الليلة بالبارحة.. لم نقبل نقد الشافعى لمالك، ولم نتسامح مع اختلاف الفكر، رغم أن الشافعى لم يكن يذكر من ينقد بسوء أو أذى غير نقد الفكر. ثم قيل فى ما رُوى عن الكندى وابن عساكر أن العامة اجتمعت عليه بالهراوات، فمات من الضرب سنة 204، ودُفن بمصر!!.
فهل قتلنا الشافعى، وعشنا بإثم ذنبه لمجرد نقده من قدّسه العامة؟ وكم من شافعى سنقتل باسم التعصّب لأشخاص اجتهدوا وسعوا لفهم دون احتكار له؟ كم من شافعى سنقتل وقد كان تلميذاً ورعاً لمن انتقده، بحثاً عما ارتضاه عقله وضميره؟
نعيش أزمة فكر من سنوات بعيدة، قدّسنا شخوصها ومواقفها دون وقفة لفهم، أو تمهّل لإراحة ضمير وتبليغ ما سعينا له لمن سيأتى بعدنا ليُكمل هو عليه. فظللنا نتحدّث عن التاريخ والماضى والسلف المقدّس، بينما هذا التاريخ والماضى والسلف حمل أفعال البشر بحُسنها وسيئها، بخيرها وشرها. ألم تحارب السيدة عائشة أم المؤمنين الإمام على بن أبى طالب، فى موقعة الجمل سنة 38 هجرية رفضاً لتوليه السلطة؟ ألم يُصلب جثمان عبدالله بن الزبير ابن ذات النطاقين، حفيد الصديق، فى الكعبة بعد قتله؟ ألم يُحرّم بنو أمية ذكر آل البيت على منابر المساجد فى دولتهم؟ ألم يُصرع الحسين حب رسول الله، وتقطع أطرافه فى كربلاء على أيديهم؟ ألم يُجرِ بنوا العباس الدم أنهاراً بقضائهم على بنى أمية؟ بالله عليكم كيف تتصورون يوتوبيا فى ما أحدّثكم عنه وهو لا يتجاوز قرنين من الزمان؟ ورغم هذا لا ينكر أحد ما حدث من سعى لبناء حضارة عربية رغم تلك الأحداث المؤسفة.
خلاصة القول يا سادة.. تعالوا إلى كلمة سواء تمنحنا الغد والفكر وإعمال العقل.. تعالوا نتعلم من أخطاء مضت وقضت على الكثير من الفرص فى تاريخنا، تعالوا لفهم حقيقى لدين الله الذى جاء لرفاهية الإنسان لا عذابه. تعالوا نحمى تراثنا ونطوره قبل أن يأتى طوفان الغل ليقضى علينا.