بقلم: نشوى الحوفى
على مدار نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، شرفت بأن أكون محاضرة لأوائل الجامعات المصرية فى دورة نظمتها أكاديمية التدريب على مكافحة الفساد التابعة للرقابة الإدارية لهم بالتنسيق مع أكاديمية البحث العلمى. لأقف أمام ما يزيد على مائة خريج وخريجة أحدّثهم عن الهوية والانتماء وتحليل ما بين السطور وما تواجهه بلادنا من تحديات.
بنظرة سريعة لهؤلاء المتفوقين، تدرك أنك أمام أبناء الطبقة المتوسطة بكافة درجاتها، أبناء الكادحين المؤمنين بأن التعليم هو الوسيلة لتحقيق الطموحات والترقى فى درجات السلم الاجتماعى. وتدرك أيضاً كيف أن بلادى أدركت ضيق الوقت أمامها، وأنها لن تستطيع الصعود بكل سكانها مرة واحدة، ولكن عليها صناعة قاطرة نهضتها بشبابها المميز فى كل مجال تعليمى أو رياضى أو فنى.
أسرح فى نماذج كالهند والصين واليابان، وكيف صنعت تلك الدول نهضتها واقتصادها رغم دمار الفقر والاحتلال، كما كان فى الهند، ورغم دمار الفساد والفكر الواحد كالصين، أو دمار الحروب كاليابان. وأقف أمام تلك النماذج التى نجح كل منها فى صياغة نموذجه الخاص به بتفرد.
الصين بدأت نهضتها الفعلية فى نهاية السبعينيات، وقررت أن تكون دولة ذات ثقل فكانت الدولة الوحيدة فى العالم التى أدارت اقتصادها بمنطق الرأسمالية وأدارت سياستها بفكر الاشتراكية. ونجحت فى خلق نموذج متفرد يحتل اليوم المرتبة الثانية فى الاقتصاد على العالم.
أما فى اليابان، فقد قررت بعد دمارها فى الحرب العالمية الثانية واحتلال أمريكا لأراضيها حتى يومنا هذا -بنحو 35 ألف عسكرى و112 قاعدة عسكرية أمريكية وأسطول سابع أمريكى فى بحر اليابان- أن تدافع عن هويتها بكل تفاصيلها وتجعلها ركيزة أساسية فى ركائز حضارتها، وأن تعتمد من ناحية أخرى على الحداثة، فتبنت كل ما هو جديد ومفيد ولم تخترع شيئاً لم يخترعه العالم، ولكنها أضافت لما تم اختراعه بصمتها الخاصة.
أما الهند، فهى نموذج يمكننا التوقف عنده بعض الوقت لأسباب عدة، أولها أن تعداد سكانها تجاوز ملياراً و200 مليون نسمة، يعانى معظم سكانها الفقر الشديد حتى يومنا هذا رغم أن اقتصادها بات يدخل فى إطار الدول السبع الكبرى! وتلك معادلة عجيبة ارتضتها فى سعيها للنهضة، وهى مثقلة بالعديد من المعوقات كالأمية والفساد والفقر وعدد السكان الضخم.
ولكن الهند قررت أن تصنع قاطرة نهضة حديثة وقوية ومواكبة للتكنولوجيا بالشباب، لتجر تلك القاطرة بقية القطار المتهالك. بمعنى أنها لن تستطيع النهوض وانتشال مليار و200 مليون من الفقر والأمية والبطالة، ولكنها ستنتشل عشرات الملايين القادرين على صناعة النهضة ودفع الاقتصاد المتهالك. وهذا ما حدث حينما بحثت عن مجال يمكن أن تنافس به ووقعت على تكنولوجيا المعلومات وجعلت العاملين به هم واجهة القاطرة التى باتت اليوم أهم مصدر للدخل فى الهند، فحققت أعلى نسبة نمو فى العالم بقيمة 8%، وهو ما دفع بالسوق الهندية لتحريك عجلة الاستهلاك واحتلت الهند المرتبة الرابعة عالمياً من حيث القوة الشرائية. رغم أنها تحتل المرتبة 120 من حيث الدخل السنوى للفرد الذى لا يتجاوز متوسطه 3262 دولاراً فى السنة وفقاً لأرقام البنك الدولى.
نعم، نستطيع صناعة قاطرة حقيقية بشباب أثبت قدرته على التفوق، ربما ليس بمعايير السوق أو المجال العالمى، ولكننا نستطيع ونمتلك أدوات تطويره ومده بما يحتاج لكى يتفوق على ظروفه وتحدياته، فيكون حصان مصر فى صناعة التقدم الاقتصادى والعلمى والإنتاجى. فشكراً للرقابة الإدارية وأكاديميتها التى أدركت أن مكافحة الفساد ليس فقط بمعاقبة المرتشين، ولكن بصناعة القادرين على القيادة بحق.