بقلم: نشوى الحوفى
آمنت، بحكم ما خبرت من مقادير الحياة وما رأيت وسمعت من حكايات ومن قبلهما ما قررته الإرادة الإلهية، بأن الموت آتٍ فى أى وقت وأى مكان، وأن لا مهرب من توقيته وموقعه اللذين لا نعلمهما، فتيقنت بأنه طالما هو آت آت وبأننا جميعاً ميتون، فلنمت إذاً ونحن على قدر المهام والمسئولية والحكمة من الحياة.
من هنا استوقفتنى تلك القصة المنشورة على موقع «سى بى سى»، أمس الأول السبت، عن شاب سورى هرب من أتون الحرب بسوريا ليموت فى الحريق الذى تمكن منه فى برج جرينفيل بلندن يوم 14 يونيو 2017.
تقول وقائع تلك المأساة إن محمد الحاج وشقيقه عمر هربا من جحيم الحرب فى سوريا مع لاجئين من جنسيات عدة إلى أوروبا، وبعد رحلة طويلة وشاقة تمكنا من الحصول على اللجوء فى بريطانيا التى وصلاها فى العام ٢٠١٤. كان حلمهما، كملايين اللاجئين، حياة أفضل فى مكان أكثر أمناً. ليبدأ كل منهما فى إجراءات إكمال دراسته الجامعية والبحث عن عمل يمكنهما من تحمُّل نفقات الحياة فى ذات الوقت. واختارا السكن فى برج جرينفيل فى غرب لندن، حيث كانت شقتهما فى الطابق الرابع عشر. تقول القصة إن البرج الذى يتكون من 24 طابقاً وبه 120 شقة، يسكنه أكثر من 600 شخص غالبيتهم من المهاجرين من جنسيات عدة.
كان محمد يدرس الهندسة التى حلم بالتخصص بها وكثيراً ما سعى لدى السلطات إلى قبول لجوء والديه ليجتمع شمل الأسرة، ولكن طلبه قوبل دوماً بالرفض دون إبداء أسباب. كما تقول القصة إن برج جرينفيل، الواقع على أطراف أحد أغنى أحياء لندن، كان يعانى من إهمال بلدية كينجستون التى لم تبال بشكاوى سكانه منذ العام 2013 فيما يتعلق بسوء حالته وإغلاق منافذ الخروج من المبنى بمخلفات عملية ترميم تعرّض لها قبل ذلك التاريخ، وغياب إجراءات السلامة والأمن عن البرج.
لا أحد أعلن أسباب الحريق الذى أودى بحياة محمد الحاج ومعه 71 شخصاً آخر من جنسيات مختلفة، هذا غير إصابة نحو 74 آخرين. كما لم يسمع أحد عن محاكمات بتهمة الإهمال لبلدية كينجستون التى لم تبال بغياب عناصر الأمن عن البرج. ولكننى توقفت أمام تلك المأساة للاجئ هرب من الموت ليلتقيه فى البلد الذى هرب إليه، فمحمد قصة مكررة بتفاصيل متعددة ومختلفة للكثير من اللاجئين إجباراً أو اضطراراً، فيلقون الموت فى رحلة الهرب من الأوطان براً أو بحراً، أو فى بلدان لجأوا لها بحثاً عن أمان سعوا له. ولذا فقد وجدتنى أتساءل: أيهما أحسن حالاً، من قرر ترك الوطن والأهل بحثاً عن أمان، أم من قرر البقاء لخلق الأمان؟
ودون أن أدرى وجدتنى أذهب بعقلى وقلبى لصورة شباب من مجندين وضباط فى وطنى، ربما أصغر من محمد الحاج، ولكنهم كانوا فى مواجهة الموت دفاعاً عن أرضهم وأهلهم.. شباب احتضنوا الموت ليبعدوه عن ذويهم ومن معهم ومن لا يعلمونه من البشر، تماماً كذلك البطل من القوات المسلحة الذى لاقى ربه يوم الخميس الماضى عبدالله جمال، الذى سارع لاحتضان تكفيرى فى شمال سيناء حاول الهجوم على ارتكاز أمنى يحيط به تجمع للمدنيين، فكانت وفاة عبدالله الذى نحسبه عند ربنا شهيداً. نعم، مات محمد الحاج فى حريق بلندن التى لجأ لها فراراً من موت، ومات عبدالله جمال سعياً لأمان أبرياء فاحتضن تكفيرياً ليبعده عنهم.
كلاهما مات وكلاهما أدركه الموت كملايين البشر كل يوم... ولكن ما أسعد من جاءه الموت مدافعاً عن أرض وعرض.. فالموت يدركنا ولو كنا فى بروج مشيدة.