بقلم - هنا أبوالغار
منذ اللحظة التى يجلس فيها الرضيع وينظر حوله ويستكشف ويختار لعبة دون أخرى، إلى اللحظة التى نقف فيها أمام صندوق الانتخاب ونختار مرشحا دون آخر لنا خيار، وخياراتنا هذه لها نتائج تنعكس علينا وعلى مَن حولنا. لا نختار دائما بين الأفضل والأسوأ، كثيرا ما تكون خياراتنا بين السيئ والأسوأ، وليست دائمًا سهلة ولا يشترط أن تكون واضحة، فالاختيار ليس دائما بين الأبيض والأسود، لكن دائما أبدا هناك أكثر من خيار حتى لو كان الخيار هو ترك الخيار للآخرين أو للقدر.
قراراتنا تختلف على خلفية الجيل الذى ننتمى إليه، ثقافتنا، تعليمنا، قناعتنا الدينية والسياسية، البيئة التى نتربى فيها، الأصدقاء والوسط الذى نود أن نكون جزءا منه، تقاليد أسرتنا أو مجتمعنا. مهما ضعفت أدواتنا لحسن الاختيار فهذا لا يلغى أنه يؤثر علينا وعلى أحبائنا وعلى المجتمع كله، وإن رفع المسئولية عن الشخص بسبب قلة تعليمه أو ثقافته أو وقوعه تحت ضغوط اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية هو أمر فى منتهى الخطورة؛ لأنه يحول الفرد من «فاعل» لديه تأثير على مجتمعه بالإيجاب أو بالسلب ويحاسب على هذا التأثير، إلى «مفعول به» لا غبار عليه فيما يختاره لكنه أيضا مسلوب الحقوق كونه «قاصرا فكريا».
***
من السهل والمريح كلما ناقشنا أزمة من أزمات مصر الكثيرة أن نرتاح لتفسيرات كلها تركز على فشل أنظمة أو حكومات أو قادة على مر العصور، ولأنهم فعلا كان لهم دور كبير فيما نحن وصلنا إليه هو الأريح أن نتجاهل دورنا كأفراد فى بقائنا دائما فى نفس الخانة السياسية والاقتصادية. هذا النقاش ليس غرضه رفع المسئولية عن السلطة لكن هدفه أن نذكر أنفسنا أننا جزء مما وصلنا إليه، ودون مراجعة أنفسنا والتعلم من أخطائنا لن نأخذ خطوات إلى الأمام. فأى قيادة على مستوى الوطن نابعة من المجتمع وجاءت وبقيت بمناصرة مجموعة من «الأفراد» تشكل شريحة من المجتمع، وهم شركاء فى تحمل ما ينتج من إيجابيات وسلبيات لاختيارهم.
رفع المسئولية عن الفرد لظروفه هو شهادة بأن هذا الفرد أقل قدرة على اتخاذ قرار صائب ويحتاج إلى توجيه أو إرشاد، وهو منطق شبيه بمنطق من يسوقون لحرمان غير المتعلم من التصويت. وهو يفتح الباب للتبرير بدلا من المحاسبة فنبرر الإرهاب بأنه نتاج لاضطهاد ما، أو أن الانفجار السكانى سببه الجهل، أو أن ممارسة جريمة مثل قطع الأعضاء التناسلية للفتيات بأنها عادات وتقاليد، أو أن ممارسة العنف ضد الطفل أو المرأة داخل الأسرة بأنه موروث ثقافى، كل هذه الممارسات لها «تفسير» لكنه لا يشفع أبدا لفاعله ولا يجب أن «يبرر» الفعل، حيث إن الشخص البالغ (وحتى الطفل) له خيار فى ممارسة أو عدم ممارسة العنف أو الاضطهاد أو الظلم أو تجاهل القانون أو عدم تحمل المسئولية نحو من ينجبهم من أطفال... إلخ.
وهناك أمران يجب أن نتذكرهما قبل أن ننساق إلى إيجاد مبررات مبنية على خلفية «الحرمان والتهميش»، الأول هو أن القيم الإنسانية من حب وصدق وعدل وعطاء وكرامة وأمانة ومنطق ليست حكرا على المتعلمين ولا نتعلمها فى المدارس والجامعات ولا على أصحاب الحظ الوفير، صحيح أن النشأة والتعليم والبيئة تلعب دورا مهما جدا فى انحيازاتنا وسلوكياتنا وثقافتنا، لكن فى النهاية لدينا خيار، وبالتالى فليس من الاحترام لعقل وإرادة أى فرد سواء كان أقل أو أكثر حظا أن يعفى من تحمل مسئولية فعله، ولهذا فالقانون لا يفرق فى محاسبة الفرد إذا ما كسره. ثانيا أن البصيرة لا تحتاج إلى تعليم ومال، ولدينا أمثلة كثيرة لشخصيات مصرية عظيمة ومواقف مشرفة أخذها جموع المصريين فى التاريخ نبعت من بيئة لم يكن لها حظ فى التعليم ولا المال، وأمثلة أخرى لأفراد مارسوا الفساد والقهر والقمع والظلم بالرغم من تعليمهم الجيد وحياتهم المرفهة.
***
إذا كنا جادين فى أن يحظى أبناؤنا بنفس ميزات المواطن فى أى دولة متقدمة من تعليم وخدمة صحية وغطاء اجتماعى وفرص عمل، علينا أن نطالب الدولة بتطبيق الدستور والقانون فيما يخص هذه الحقوق وهى مسئولية أصيلة لأى حاكم منتخب، ومن حقنا أن نحاسب الحكومة بوزاراتها على قراراتها وسياساتها وتأثيرها على حياتنا وحياة أبنائنا. لكن علينا أيضا أن نواجه حقيقة مرة وهى أن الحقوق والحريات الخاصة يواكبها واجبات والتزامات عامة تفرض عند تطبيقها لضمان حق الآخر، وأننا كثيرا ما نتنصل من الالتزام بهذه الواجبات ونعتبرها قيدا نتهرب منه. وسأعطى أمثلة لقوانين تحمى حقوقنا وحقوق الآخرين وأساسية للتعايش السلمى إلا أنها لو تم تطبيقها على مجتمعنا بجدية سيقع السواد الأعظم منه تحت طائلة القانون: قانون حماية الطفل، قوانين التعدى على أملاك الغير أو الأملاك العامة، قانون المرور، قانون التزام الأسر بإرسال أبنائها إلى المدارس، قانون عمالة الأطفال سواء طبقناه على أبويهم أو على صاحب العمل، قانون سن الزواج، القوانين التى تمنع التلوث السمعى وتلوث البيئة، قانون قطع الجهاز التناسلى للمرأة، الالتزام بساعات العمل، قوانين سلامة الأبنية، قوانين سلامة السيارات… مئات القوانين التى تضبط علاقة الفرد بالآخر والتى نكسرها كأفراد كل يوم ونقاوم تطبيقها ونجد لأنفسنا ولغيرنا مبررات لعدم الالتزام بها متجاهلين دورنا فيما وصلت إليه حياتنا اليومية من معاناة. حتى فى خياراتنا السياسية، نستسهل أن نعيش فى مظلومية أن واقعنا السياسى والاقتصادى غير مرضٍ لطموحاتنا، لكننا ننسى أن الظلم الناتج عن خيارنا التاريخى فى ألا نكون فاعلين سياسيا وأننا نفضل أن تكون مشاركتنا فى أمور السياسة والعمل العام بالشكوى وليس بالفعل، وعندما نشارك فى الخيار فنحن نتعامل مع القائد بشكل غير موضوعى، فيكون خيارنا عاطفيا، فلا نحن نقوِّمه وننقده أثناء حكمه (وهو واجبنا وحقه وحق أبنائنا علينا) ولا نحن نقيم التجربة ودورنا كأفراد فيه بعد انتهائها حتى نتعلم من خياراتنا ومن ممارستنا فنبنى على التجربة السياسية ونخطو إلى الأمام.
اليوم الذى يبصر فيه كل فرد أهمية خياراته، ونتوقف عن المظلومية ونتحمل وزر خيارتنا فى كل تفاصيل حياتنا اليومية، يومها يكون لنا وزن وقيمة كأفراد سواء داخل الوطن أو خارجه، إلى أن يحدث ذلك سنبقى «مظلومين، مغلوبين على أمرنا، مفعولا بنا» وأذكركم وأذكر نفسى أن هذا أيضا «خيار».
نقلا عن الشروق القاهرية