بقلم: مينا العريبي
يستحق العراقيون كلمة الاعتذار التي وجّهها رجل الدين العراقي مقتدى الصدر لهم في كلمته المقتضبة أمس. اعتذار الصدر للعراقيين كان عن ليلة الرعب التي عاشوها من مساء يوم الاثنين حتى ظهر يوم أمس (الثلاثاء). أصوات الاقتتال التي دوَّت في العاصمة وعدد من المحافظات ذكرت العراقيين بسنوات الحرب التي عاشوها سابقاً، وكان الخوف أن تنتشر حالة الفلتان الأمني في أرجاء البلاد كافة لتتطور إلى حرب أهلية. ولكن خلال 24 ساعة، انتهت هذه الزوبعة العنيفة. فمثلما أعلن الصدر انسحابه من الحياة السياسية عصر الاثنين 28 أغسطس (آب) وتخلى عن مسؤولية تصرفات المؤيدين له الذين توجهوا فوراً للمنطقة الخضراء، أعلن عصر الثلاثاء رفضه لما يقوم به أنصاره من مظاهرات ومواجهات مسلحة وأمرهم بالانسحاب. وهذا ما فعلوه.
خلال خطابه الذي نقلته قنوات الأخبار العراقية والعالمية، أمهل الصدر أتباعه 60 دقيقة للانسحاب من محيط المنطقة الخضراء، فتحركوا فوراً. وبذلك برهن الصدر مجدداً أنه يستطيع أن يحرك الآلاف بإشارة منه، كما يمكن أن يحملوا السلاح ويتخلوا عنه بكلمة منه أيضاً.
بعد الأحداث سريعة الوتيرة التي عاشها العراق يومي الاثنين والثلاثاء، يجب النظر إلى أين وصلت البلاد. فالتهديد الأولي لانزلاق العراق بحرب شوارع قد تراجع، ولكن التهديد الأوسع للدولة ما زال قائماً، بل تفاقم. سهولة انتشار المسلحين في البلاد وعدم انصياعهم لأوامر قائد القوات المسلحة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أظهر مجدداً عجز الدولة وضعف حيلتها في التعامل مع المسلحين. أعضاء «الحشد الشعبي» الذين سرعان ما نزلوا أيضاً إلى الشارع هم مسلحون من قبل الدولة ويتسلمون رواتبهم وأسلحتهم منها، إلا أنهم لم ينصاعوا لأوامر ومطالب القائد الرسمي لهم. كما أن القوات المنتشرة حول مؤسسات الدولة ومقر الحكومة لم تستطع مواجهة المسلحين، ليس لعدم توفر السلاح أو التدريب لهم، ولكن بسبب خوف الحكومة من أن تصبح طرفاً في الاقتتال. لو قامت الحكومة بإطلاق النار أو حاولت إلقاء القبض على بعض المسلحين كانت ستتَّسع رقعة القتال وتصبح الدولة طرفاً فيه.
كانت هناك تساؤلات حول إمكانية انضمام متظاهرين سلميين، وخاصة من «حركة تشرين» التي حركت المظاهرات عام 2019، للصدريين. ولو حدث ذلك لاستطاع الصدر أن يقول إنه يمثل الحركة الإصلاحية في البلاد، وهو ما يسعى إليه. إلا أن المستقلين كانوا حذرين ولم ينضموا إلى حركة الاحتجاجات، مدركين أن هذه المواجهة كانت بين أطراف سياسية حول السلطة، وليست حقاً إصلاحية. «الإطار التنسيقي» (وهو الذي يضم بعض الذين تطاولوا أكثر من مرة على الدولة ونالوا من هيبتها وسلطتها) سارع بالإدلاء بتصريحات تطالب بحماية «مؤسسات الدولة»، سعياً للظهور بأنه الطرف الأكثر عقلانية في هذه المواجهة. لكن في الواقع يتحمل أيضاً المسؤولية عن التعطيل السياسي في البلاد والمواجهة المسلحة.
من الجمل اللافتة في خطاب الصدر يوم الثلاثاء، الذي ظهرت عليه علامات الغضب؛ إن «القاتل والمقتول في النار». لم يترحَّم على الذين قتلوا، ويقال إنهم وصلوا إلى 30 عراقياً، بل اعتبر أن كل من كان في الساحة مذنب. أراد الصدر أن يثبت أنه لم يكن يريد أن يرى أي طرف يحمل سلاحاً محسوباً عليه. وعلى الرغم من انتقاده لـ«القاتل والمقتول»، سرعان ما أوضح أنه يشكر ويحترم القوات المسلحة، التي يقال إن 6 من عناصرها قد قتلوا خلال المواجهات، كما شكر أيضاً عناصر «الحشد الشعبي». بعد المواجهات المسلحة وتراجع الخوف من اندلاع حرب شوارع، تعود الأنظار إلى العملية السياسية المعطلة في البلاد. فالعوامل التي أدت إلى الانفلات الأمني ما زالت قائمة، وأزمة الحكم تتصاعد بعد خروج الصدر من العملية السياسية، رغم أنه ما زال يؤثر عليها بشكل ملموس. الخطوات المقبلة، بما فيها قرار المحكمة الدستورية حول حل البرلمان وإعلان الأطراف السياسية الأخرى موقفها مما يدور، ستوضح ملامح المرحلة المقبلة.
مواجهة ليلة الاثنين - الثلاثاء الماضية كانت بين أحزاب شيعية إسلامية. لم تكن هناك صبغة طائفية للمواجهات التي انحصرت في بغداد وعدد من المحافظات الجنوبية. رغم تشعب أسبابها، الأزمة الحالية هي في الصميم حول من ستكون له الكلمة العليا بقيادة النهج السياسي للأحزاب الشيعية الإسلامية وتوجهها خلال المرحلة المقبلة.
ومن اللافت أن الصدر قد أعلن اعتزاله العمل السياسي بعد يوم من إعلان المرجع الذي يقلده، آية الله كاظم الحائري، اعتزال المرجعية، وتسليم مقلديه إلى القائد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. هذه التطورات، التي تمس المرجعيات الشيعية والمنافسة التاريخية بين النجف وقم، لا علاقة لها بالناخب العراقي أو مستقبل الدولة العراقية، لكنها تؤثر على شريحة مهمة من الساسة العراقيين، وجزء من الشعب الذي يقلد هذه المراجع. زاد تأزم الوضع في العراق تعقيداً هذا الأسبوع، خاصة مع إعلان الصدر اعتزاله للعمل السياسي، ووصول الخلاف بين الصدر و«الإطار التنسيقي» إلى مستويات غير مسبوقة في العلن. لكن السيناريوهات الأربعة التي ذكرتها في مقال سابق على هذه الصفحات ما زالت قائمة؛ انتخابات جديدة، أو مواجهة مسلحة محدودة (بدأت، لكن لم تحسم الوضع)، أو مواجهة مطولة من دون حسم عسكري أو سياسي (الاحتمال ما زال قائماً)، أو استمرار الحكومة الحالية سعياً للترتيب للمرحلة المقبلة.
الأيام المقبلة ستشهد تحدياً جديداً لرئيس الوزراء العراقي، ليعيد هيبة الدولة بعض الشيء بعد الانفلات الأمني وظهور السلاح العلني من دون محاسبة واقتحام مقرات الدولة الرسمية، بالإضافة إلى تحدي وضع خريطة طريق لانتقال السلطة بعد 11 شهراً من انتخابات لم تجلب إلا المزيد من الأزمات في البلاد. ولكل هذه التجاوزات يستحق الشعب العراقي الاعتذار له عما يعانيه من ويلات.