بقلم : مينا العريبي
«تصميم المستقبل»؛ هذا هو التعبير الذي يستخدمه وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل الإماراتي محمد القرقاوي، في الحديث عن التخطيط الحكومي في دولة الإمارات العربية المتحدة. وهذا التعبير ليس شعاراً بل وصف واقعي لما تقوم به دولة الإمارات، وما تتطلبه أي دولة تتطلع إلى مستقبل مزدهر ومستقر.
«تصميم المستقبل» تعبير فيه طموح ووعي بأن كل ما نقوم به اليوم سيحدد الغد. وهو يتطلب عدداً من الخطوات الملموسة، على رأسها التفكير الاستراتيجي وبعيد الأمد. فعلى سبيل المثال الإمارات لديها خطط ملموسة تصل إلى عام 2071، مئوية البلاد - وتشمل جميع نواحي العمل الحكومي والتخطيط لقطاعات مثل الصحة والتعليم والاقتصاد وتوفير الطاقة. وكانت هذه قضايا مطروحة على اجتماعات الحكومة الإماراتية الأسبوع الماضي في أبوظبي بحضور أهم 500 شخصية حكومية في البلاد شملت يومين من النقاشات وورش العمل من خلال 35 مجلساً. ورش عمل تجمع بين القطاعات والدوائر المختلفة للتنسيق وتصميم المستقبل.
هذا مثال حي على ما تتطلبه مسؤولية الحكومة في عصرنا الحاضر. المطلوب من القيادي اليوم أن يعمل كمهندس لهندسة مجالات مختلفة استعداداً للمستقبل، وأن يتمتع بنظرة استراتيجية ثاقبة، بالإضافة إلى استطاعته أن يُقنع من يعمل معه والشعب بشكل أوسع بما يقوم به. إنها خصال أساسية للنجاح في المستقبل البعيد. ولكنها نادراً ما تكون متوفرة.
في الوقت الراهن، نرى المسؤولين في غالبية الحكومات – وليست فقط العربية – يحصرون همهم في التخطيط القصير الأمد، سعياً للحصول على مكتسبات محدودة ولكن سريعة. لا شك أن الدول التي تُجري انتخابات وتشكّل حكومات بناءً على تحصيل انتخابي لديها تركيبة مختلفة من تلك التي تعتمد على التعيينات. ولكن في الواقع، الانتخابات في دول مثل العراق ولبنان لا تؤدي إلى تولي أفضل من يتم انتخابه حقيبة وزارية، بل تؤدي إلى تقوية أحزاب معينة تدفع بمرشحيها للحصول على حقائب وزارية غالباً ما تخدم مصلحة الحزب على مصلحة الوطن.
بالطبع لا يمكن التعميم في ما يخص دور الحكومات وسلوكياتها، إذ نظام الحكم لكل دولة مختلف، كما أن متطلبات كل دولة وشعبها فيها خصوصية. ولكنّ هناك أسساً لعمل أي حكومة، وهي مرسَّخة في خدمة الشعب ودفع الدولة إلى أعلى مرتبة ممكنة.
والدول العربية ليست الوحيدة التي تواجه تحديات في تشكيل وعمل حكوماتها. خلال الأسبوع الماضي، خسرت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، سابع وزير من حكومتها بسبب خلافات عميقة داخل الحزب الحاكم حول خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي «بريكست». وعلى الرغم من أن تقييم الحكومة نفسها وتقييم بنك إنجلترا المركزي أن «بريكست» سيضر الدولة، فإن ماي لا تجرؤ على اتخاذ خطوة شجاعة مبنية على «تصميم المستقبل» والتخلي عن خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي بحلول مارس (آذار) المقبل.
هناك إطار عالمي يمكن لأي دولة تبنيه للعمل على بناء المستقبل، وهو إطار «أهداف التنمية المستدامة» الذي اتفقت دول العالم على تحقيقه بحلول 2030 عبر آلية الأمم المتحدة. ومن أهم تلك الأهداف كيفية مكافحة التغيير المناخي ومكافحة الفقر المدقع وتحقيق المساواة في المجتمعات. وبينما وضعت ضوابط لكيفية تحقيق تلك الأهداف، نجد أن العامل الأساسي لتحقيقها يرتكز على عزيمة كل دولة لتحقيق هذه الأهداف.
التطورات العالمية السريعة لا تسمح بضياع الوقت – من حيث تحقيق أهداف التنمية المستدامة أو تحقيق طموحات الشعوب. وعلى رأس تلك التطورات الثورة التي تُحدثها التقنيات المتعلقة بالذكاء الصناعي. في الوقت الراهن، الولايات المتحدة والصين تتصدران الذكاء الصناعي من حيث البرمجة والتطوير التقني. الصين اليوم مسؤولة عن 42% من الإنفاق في تلك التكنولوجيا، بينما تتقدم في تطوير صناعات أخرى تضمن موقعها كقوة قيادية ليس فقط بسبب الحجم السكاني والاقتصادي. فعلى سبيل المثال، تنتج الصين اليوم 40% من الطاقة الشمسية في العالم، وتنوي تطوير تلك التقنيات لتقلل اعتمادها على المشتقات النفطية. التغييرات التي نشهدها بالطبع ليست حكراً على القطاع العام أو على العمل الحكومي. فالقطاع الخاص أيضاً يشهد تقلبات تتطلب قيادة حكيمة وقادرة على إدارة هذه التغييرات. على سبيل المثال، قبل 20 عاماً، كانت الشركات العشر الكبرى في العالم هي شركات الصيرفة والنفط. اليوم الشركات العشر الكبرى جميعها شركات متعلقة بالتكنولوجيا والعالم الرقمي مثل «غوغل» و«فيسبوك». من اللافت أنه في دولة الإمارات هناك حديث مكرر عن التغييرات الاقتصادية التي أدت إلى تغييرات اجتماعية مهمة في تاريخ البلاد. فعلى سبيل المثال، اندثار تجارة اللؤلؤ في الإمارات بسبب تقنيات اللؤلؤ الصناعي في اليابان كان سيغيّر مستقبل دولة الإمارات لولا اكتشاف النفط. اللؤلؤ الصناعي قضى على آلاف الوظائف الإماراتية واضطرت الدولة قبل عقود إلى إعادة تأهيل كوادرها وخططها. واليوم التخطيط لمرحلة ما بعد النفط، التي لن تأتي إلا بعد عدة عقود، ولكن تصميم المستقبل يعني الاستعداد لتلك المرحلة.
«تصميم المستقبل» يحتاج إلى الشباب وأيضاً إلى مَن يحمل الخبرة الكافية لمعرفة ما هي القضايا الجوهرية التي يجب التركيز عليها، وما هي القضايا الأشبه بـ«الصرعة» التي سيخفت نجمها سريعاً.
الرؤية البعيدة الأمد هي ما تمتع بها الشيخ زايد، رحمه الله. ومع اقتراب انتهاء «عام زايد»، وهي تسمية عام 2018 في الإمارات - إحياءً لذكرى الشيخ زايد تزامناً مع مئوية ميلاده - تعمل قيادة دولة الإمارات لإبقاء روح القيادة والطموح والتفكير في المستقبل في صلب عمل الدولة. ومن الإنجازات التي حققتها دولة الإمارات هذا العام تسمية جواز سفر دولة الإمارات جواز السفر الأقوى في العالم، حيث إن حامل جواز السفر الإماراتي يتمتع بميزات أفضل من أي دولة أخرى، بما في ذلك دخول 167 دولة دون تأشيرة مسبقة - 113 دولة دون تأشيرة دخول مسبقة، و54 تأشيرة عند الوصول إلى البلد. هذا مثال آخر على قدرة تصميم المستقبل من خلال مبادرات ملموسة وعمل دؤوب ورؤية ثابتة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع