بقلم : مينا العريبي
على الرغم من أن عدد سكان مدينة كرايستشرش النيوزيلندية لا يتعدى 380 ألف شخص، فإن مئات الملايين حول العالم تأثروا بمأساة الهجوم الإرهابي الذي وقع فيها يوم الجمعة الماضي. جزء من ذلك يعود إلى شعور أي شخص طبيعي بالصدمة والفاجعة من استهداف مدنيين عزل، وهم في دار عبادة، بغضّ النظر عن معتقدات ذلك الشخص. والجزء الآخر متعلق بواقع أن العشرات من الضحايا والمصابين من جراء الحادث الأليم يحملون جنسيات مزدوجة أو من أعراق مختلفة، فالفلسطيني والعراقي والأفغاني والهندي والصومالي والنيوزيلندي وغيرهم من الذين يجمعهم دين الإسلام الحنيف كانوا يقفون صفاً واحداً في جامع بكرايستشرش، قبل أن يقتلوا بدم بارد. غالبية المقتولين أو آباؤهم تركوا دولهم الأم للبحث عن حياة أفضل، في دول تتمتع بأمان لهم ولعائلاتهم، ليجدوا أنهم عرضة لهجوم إرهابي في موطنهم الجديد.
وبينما تستمر التحقيقات حول خلفية الأسترالي الإرهابي بيرنتون تارنت، وعن احتمالية وجود روابط بينه وبين مجموعات متطرفة منظمة، من الواضح أنه تأثر بالفكر اليميني المتطرف الحاقد على المسلمين. ويجب النظر إلى الطرح السياسي اليميني المتشدد الذي يساهم في توليد العنصرية ويدفع باتجاه جرائم الكراهية التي أخذت تتصاعد في الآونة الأخيرة. وإحدى أبرز ركائز هذه الآيديولوجيا في الدول الغربية هي الرفض المطلق للمهاجرين. وبين بعض الأوساط اليمينية المتطرفة، توجه هذه الكراهية ضد المهاجرين العرب والمسلمين، وفي كل دولة تكون العنصرية مختلفة، فإذا كانت في الولايات المتحدة ضد المهاجرين من أصول لاتينية، فإنها في دول أوروبا الغربية عنصرية ضد الأوروبيين الشرقيين. فكر اليمين المتطرف يدمج بين العنصرية العرقية وبين رفض المهاجرين، الذين يعتبرهم تارنت وأشباهه «غزاة». ويا للمفارقة أن كثيراً من اللاجئين اضطروا إلى الفرار من بلادهم بسبب غزاة بيض في الأساس.
البعض يتصور أن الهجرة علامة من علامات العولمة والعصر الحديث، ولكن في الواقع الهجرة جزء مهم من تاريخ البشرية، وعلى رأسها هجرة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة. ولكن عصرنا الحديث وتقنيات التواصل جعلت من الممكن نقل أخبار المهاجرين وتضخيم الخلافات بين الخلفيات الثقافية والعرقية المختلفة. وبينما تزداد أعداد المهاجرين، علينا التذكر بأن 3.4 في المائة فقط من سكان العالم يعتبرون مهاجرين. ومن يدعي أن الهجرة تؤدي إلى تغييرات كبيرة في المجتمعات، غالباً ما يبالغ في ذلك الطرح. ولكن أعداد المهاجرين في تزايد، كما أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية تؤدي إلى انتقال الملايين من بلدانهم الأصل إلى بلدان جديدة. وقد وصل عدد المهاجرين في عام 2017 إلى 258 مليوناً، بعد أن كان عددهم 220 مليوناً عام 2010، وقبل ذلك 173 مليوناً عام 2000، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة.
ومن المثير أنه في عام 2017 كان ثلثا المهاجرين يقطنون في 20 دولة فقط. 50 مليوناً منهم في الولايات المتحدة، بينما ثاني أكثر دولة تستضيف المهاجرين هي المملكة العربية السعودية، تليها ألمانيا وروسيا. ولكل من هذه الدول واقع خاص يجذب المهاجرين. الولايات المتحدة مبنية على استقبال المهاجرين منذ إنشاء الدولة الحديثة، بينما السعودية تعتمد على اليد العاملة في كثير من الصناعات.
أما الهجرة إلى نيوزيلندا بالأرقام فإنها تظهر صورة لافتة. فبحلول نهاية يناير (كانون الثاني) 2019 وصل 151600 مهاجر إلى نيوزيلندا، بينما غادر 93200 منهم البلاد، ففي المحصلة بقي 58400 مهاجر في نيوزيلندا خلال 2018 – 2019، بزيادة 1600 مهاجر عن العام السابق. وبحسب مكتب الإحصاء النيوزيلندي، فالدول الخمس التي تأتي منها أكبر أعداد من المهاجرين متنوعة، فبحسب مكتب الإحصاء ذاته؛ 17500 من هؤلاء أتوا من الصين، بينما 14700 من الهند، ثم 8 آلاف من المملكة المتحدة، و8 آلاف من أستراليا، و7700 من الفلبين. وتقوم نيوزيلندا باستقبال ألف لاجئ سنوياً عبر اتفاقية مع المفوضية السامية للاجئين. ومنذ الحرب العالمية الثانية استقبلت نيوزيلندا 35 ألف لاجئ فقط من بين 4.79 مليون نيوزيلندي. لكن استخدام الأرقام والإحصاءات لا ينفع مع المتطرفين والعنصريين، الذين يروجون لفكر متطرف.
هذه الأرقام لا تشمل الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين، فأعدادهم أكبر، لكن يجب عدم اعتبارهم مهاجرين، ولكنهم يختلفون في الشكل والثقافة، ما يثير العنصريين والمتطرفين.
البعض يعتقد خاطئاً أن اللاجئين يساهمون في زيادة أعداد المهاجرين بشكل لافت، ولكن في الواقع 25.9 مليون لاجئ مسجلون حول العالم، وغالبيتهم في دول آسيوية، إذ تستضيف تركيا العدد الأكبر من اللاجئين في العالم بـ3.1 مليون لاجئ، يليها الأردن 2.9 مليون، و2.2 مليون لاجئ في فلسطين، و1.6 مليون في لبنان. كل هذه الإحصاءات بحسب الأمم المتحدة لعام 2017، أي أن الشكوى اليمينية ضد «غزو» المهاجرين واللاجئين لا محل لها من الصحة.
أحياناً تكون الهجرة خياراً، وأحياناً الظروف تجبر المرء على الرحيل. أسباب الهجرة عدة، ولكن في صميمها يقع الطموح لفرصة أفضل، فرصة عمل، فرصة تعليم، فرصة العيش بحرية والتعبير عن الرأي. هل ما زالت تلك الفرص موجودة؟ لكل أم أو أب يتخذون قرار الهجرة من أجل ابنهم أو ابنتهم، هناك سؤال جوهري؛ كيف يمكن أن أقدم أحسن حياة ممكنة لأطفالي؟ وهل يمكن أن أعرضهم لخطر أكبر بالهجرة؟ الإرهابيون يريدون إقناع المسلمين بأن الهجرة إلى دول غربية ليست خياراً. يجب ألا يفلح هؤلاء في إخافة المقيمين في الدول الغربية أو الطامحين للهجرة إليها. قصص النجاح للمهاجرين لا تعد ولا تحصى، من علماء الفضاء إلى عارضات الأزياء. علينا العمل على التفكير بكيفية دعم المهاجرين والمجتمعات المضيفة. الهجرة لا شك تتغير مع تغيرات العصر، ولكن من الضروري أن نضع الأسس لدعم المهاجرين اليوم، والأجيال القادمة منهم، وأبنائهم.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع