بقلم - مينا العريبي
حتى دجلة؟! تعودنا على سماع أخبار صادمة ومحزنة من العراق مع الأسف خلال السنوات الماضية، استهدفت المعالم العراقية، من الجسور إلى الآثار إلى شخصيات سياسية واجتماعية بارزة، والآن جاء الدور على دجلة، الذي مع الفرات يشكل صميم الهوية العراقية... «بلاد ما بين النهرين». لقد نهضت حضارة تلو أخرى على ضفاف دجلة، منها آشور ونينوى، ومن تلك الحضارات انتقلت إلى العالم المعرفة في مجالات عدة مثل الري والزراعة.
اليوم، «بلاد ما بين النهرين» على وشك أن تخسر أحد نهريها، ويبدو أن الثاني على الطريق. «بلاد ما بين النهرين» تحولت من أراض زراعية خصبة تغذي أبناءها إلى بلاد تستورد بالدرجة الأولى احتياجاتها الزراعية من دول عدة، على رأسها تركيا وإيران المستفيدتان من التراجع العراقي. نهر دجلة، مثل كل الأنهر، هو مفتاح التنمية والنمو الاقتصادي والاجتماعي وشريان أساسي لحماية النظم الإيكولوجية. 55 نوعاً من الأسماك تقطن دجلة، ولكن الصيد تراجع مع تراجع أوضاع البلاد وزيادة التلوث البيئي. باختصار دجلة منبع الحياة اليوم يحتضر.
دجلة، وطوله 1850 كيلومتراً، ينبع من تركيا يمر بطرف الشمال السوري ويجري في عروق العراق حتى يصل إلى شط العرب. مع تشغيل تركيا لسد «إليسو»، يشهد نهر دجلة أسوأ حالة جفاف شهدها النهر في العراق. صور صادمة تظهر العراقيين يمشون في النهر بعد أن جف على قواربهم.
قرار تركيا تشغيل سد «إليسو»، الذي يخفض مياه دجلة في العراق بنسبة 50 في المائة، لم يأتِ من دون سابق إنذار، بل منذ سنوات وأنقرة تعلن عن مشاريع جديدة لإنشاء سدود لا بد أن تؤثر على العراق وسوريا. مشروع جنوب شرقي الأناضول يعتمد على بناء 22 سداً، و19 محطة مائية مولدة للكهرباء. بدأ العمل فيه عام 2010، وها هو يكتمل في موعده 2018. تركيا استثمرت 10 مليارات دولار في المشروع، على أمل أن يدر المشروع بعد التشغيل ما قيمته 6.6 مليار دولار للاقتصاد التركي سنوياً. ولكن هذه الأموال تقوم على قطع حقوق العراق وسوريا من المياه. اجتماعات ثلاثية بين بغداد وأنقرة ودمشق قبل نحو عشر سنوات لم تأتِ بنتيجة. وانشغال بغداد ودمشق بالأزمات الداخلية، جعل أنقرة تنفرد بالتصرف دون رقيب أو حسيب.
منذ أشهر، أبلغت السلطات التركية، الحكومة العراقية، بمشروع تخزين المياه في «إليسو»، مطالبة العراق ببرنامج مشترك معها. ولكن لم يحدث ذلك، وكل طرف يتنصل من المسؤولية. لقد سمعنا منذ سنوات عن «حروب المياه»، وكانت هذه هي الحروب المتوقعة للمستقبل. المستقبل بات هنا وقد تؤدي إلى حروب إن لم تحل الأمور بالدبلوماسية. تركيا عليها أن تلتزم الاتفاقات الدولية فيما يخص تقاسم المياه، وإلا ستكون هناك سابقة خطيرة تؤثر على الاتفاقات التي تنظم علاقات الدول التي تشترك في الأنهر والمياه. من جانبها، انتهزت إيران الفرصة وقامت بتغيير روافد نهر دجلة. وبينما التركيز على تركيا ومشاريعها الضخمة، تستغل إيران الوضع لمصلحتها.
لا شك أن تركيا وإيران تتحملان مسؤولية كبيرة في هذه الأزمة، ولكن هناك أيضاً مسؤولية الحكومة العراقية ووزارة الموارد المائية في حماية المصالح العراقية. لو كان العراق قد عمل على بناء سدود جديدة، مثل سد بيخمة وغيره، لكان حمى الحقوق المائية الوطنية. على العكس، بقي سد الموصل، وهو السد الأكبر في العراق على الضفة الغربية لدجلة، مهدداً بالانهيار من دون تحرك رسمي جدي. وبعد أن كان العراقيون، خصوصاً أهالي الموصل، يخشون من الغرق مع فيضانات قاتلة في حال انهيار سد الموصل، باتوا اليوم قلقين من الجفاف القاتل لنهر دجلة.
الطموحات التركية والإيرانية، أرضاً ونهراً، تهدد العراق من دون شك. من ناحية يجف نهر دجلة، ومن ناحية يتوغل الجنود الأتراك في الأراضي العراقية، ويتجول قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في بغداد. في الحالتين السيادة العراقية مستهدفة والتبعات وخيمة. وعلى الرغم من لقاءات معدودة ومحدودة لمناقشة قضية المياه بين بغداد وأنقرة، إلا أن العراق لم ينجح في الدفاع عن حقوقه. الاعتماد غير المنطقي وغير المسؤول على النفط جعل المسؤولين في العراق لا يبالون لما هو أهم من النفط، فآبار النفط لن تعوضنا عن عذوبة مياه دجلة.
من المؤمل أن تحل أزمة المياه الحالية بتدخل دولي يمنع تركيا من استغلال كونها دولة منبع لدجلة. ولكن هذه الأزمة يجب أن تؤدي إلى تغيير جدي في الموقف الحكومي العراقي، مع التركيز على اعتماد سياسة زراعية وإيكولوجية تحمي البلاد. حالات انقطاع المياه الصالحة، خصوصاً في الموصل التي عانت لسنوات كثيرة من انقطاع المياه، أدت إلى اضطرار الأهالي لحفر عشوائي للآبار للحصول على المياه. كما أن عدم الاهتمام بالموارد المائية يأتي كجزء من الفشل في رسم وتنفيذ سياسة زراعية سليمة. فعلى سبيل المثال، العراق اليوم يستورد أبسط أنواع الخضراوات مثل الطماطم والخيار وغيرها، كما أنه خسر مكانته كمصدر أهم التمور في المنطقة وبات يستوردها. هذا قطاع من أهم القطاعات لنمو العراق اقتصادياً واجتماعياً، فهو اليوم بلد لا توجد لديه صناعات محلية أو اقتصاد مستقل عن النفط - يعتمد بصورة شبه كلية على تصدير النفط الذي ستجف آباره خلال جيلين أو ثلاثة من العراقيين. بوجود نهرين وأرض خصبة كان من المفترض أن تكون هذه السياسة الزراعية من أولويات كل حكومة عراقية لتأمين الحاضر والمستقبل.
أما الماضي، فهو يعتمد بشكل كبير على دجلة والفرات. من المفارقات أن نهر دجلة كان موقع أول اتفاق بين طرفين حول حقوق المياه، فبتاريخ 2500 عام قبل الميلاد، اتفقت دويلتان سومريتان، لجش وأوما، على اتفاقية لإنهاء خلافهما على نهر دجلة، وتوصل زعيماهما إلى اتفاق حول إدارة المياه المشتركة. وتعتبر هذه الاتفاقية الأولى في التاريخ لتنظيم حقوق أكثر من طرف للمياه، وتعتمدها الأمم المتحدة في شرح حقوق المياه المشتركة. هل تراجع العراق إلى أكثر من 4500 عام، وبات غير قادر على حماية ثرواته المائية؟ حتى دجلة سنفقده؟
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع