رغم التجربة المضنية والمريرة والغنية للفلسطينيين، والتي استمرت أكثر من نصف قرن، في المقاومة والتسوية، في الانتفاضة والمفاوضة، في بناء المنظمة والسلطة، إلا أن هذه التجربة لم تخضع للدراسة والنقد، في الإطارات الجمعية، في المنظمة والفصائل، فاقم من ذلك غياب العقلية النقدية، والافتقاد إلى مراكز صنع القرار، وترهل الكيانات السياسية، وتقديس الكفاح المسلح، وغلبة الروح العاطفية والشعاراتية. وفي الواقع، ورغم ما أنتجته الحركة الوطنية الفلسطينية، من أدبيات، إلا أنها لم تكتب شيئاً مهما، حتى الآن، في ما يتعلق بالتجارب المختلفة التي عرفتها في الأردن ولبنان والأراضي المحتلة.
لذا فقد كان لافتاً قيام مركز الأبحاث الفلسطيني، في مستهل انطلاقته الجديدة، أن يبدأ أعماله بعقد مؤتمر له تحت عنوان:»مراجعة استراتيجيات الحركة الوطنية الفلسطينية»، تحت رعاية الرئيس محمود عباس (رام الله 21 ـ 22/3)، والذي بات يترأسه د. محمد اشتية، بعد أن تعاقب على رئاسته كل من فايز الصايغ وأنيس صايغ ومحمود درويش وصبري جريس.
في هذا الإطار يمكن لفت الانتباه إلى مسألتين أساسيتين، الأولى، وهي أن هذه المراجعة المتأخّرة، لأكثر من نصف قرن، تأتي على ضوء التجربة، أي بعد أن تم اختبار مختلف الخيارات والسياسات والكيانات، ما يعني أن الجدل في شأن إخفاق هذا الخيار أو ذاك، أو في شأن تخلف إدارة أي جانب من جوانب العمل الوطني، ليست محل نقاش، لأن الواقع، أو مآل الأحوال، هو الذي يقرر أو يحسم السؤال: أين أخفقنا؟ أو أين أصبنا؟ أو لماذا إذا حصل ما حصل؟ والثانية، وهي أن حديث المراجعة يتعلق بتحديد دور العامل الذاتي، أو الإدارة، في إخفاق هذا الخيار أو ذاك، مع الأخذ في الاعتبار دور العوامل الموضوعية والخارجية، المؤثرة في العمل الفلسطيني.
على ذلك، ومن مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية (1948ـ1993)، مثلاً، يمكن الإشارة إلى الأخطاء أو المشكلات الآتية:
1ـ طغيان العمل المسلح على مختلف أشكال العمل الوطني، على الكيانات والخطابات والعلاقات الداخلية، فأولاً، هذا كان على حساب بناء الكيانات السياسية، والتنمية المجتمعية، وهذا ما وضح أكثر في لبنان وغزة. ثانياً، سيادة اعتقاد مفاده أن الكفاح المسلح الفلسطيني سيحرر فلسطين، أي أن الأمر كان يتعلق بالعواطف والرغبات، من دون صلة بدراسة الواقع السياسي المحيط، أو المعطيات المتعلقة بنا وبإسرائيل، وحتى من دون دراسة لموازين القوى، ومن دون إدراك لطبيعة الواقع العربي. ثالثاً، هذا حصل من دون وجود استراتيجية عسكرية أو كفاحية، وإنما نوع من عمل مزاجي، وتجريبي وعفوي، مع الاحترام والتقدير للبطولات والتضحيات. رابعاً، تحويل الكفاح المسلح، أو عسكرة الكيانات السياسية، حركة التحرر الوطني إلى سلطة، كما حصل في الأردن، ثم في لبنان، ما أدخلها في مواجهات غير محسوبة، استنزفت حركتنا الوطنية وأضرت بها وبمجتمعات الفلسطينيين. خامساً، في غضون ذلك تم السهو عن مسألتين، أولاهما: أن إدراكات القيادات للعملية الوطنية، في ظروف الفلسطينيين، لم تتأسّس على ركيزتين، مواجهة إسرائيل وسياساتها الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية، من جهة، ومن جهة أخرى بناء المجتمع، وتنمية موارد الفلسطينيين وتعزيز كياناتهم وترسيخ العوامل التي تسهم في صمودهم في أرضهم من جهة أخرى. وثانيتهما، أن الكيانات السائدة لم تول الوسائل الشعبية في الصراع ضد إسرائيل، على نمط الانتفاضة الأولى (وليس الثانية)، الاهتمام اللازم، بالاعتماد على إمكانيات الشعب، ووفقا لقدراته، وتجربته وخبراته.
2ـ التراجع عن خيار الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية في فلسطين لصالح خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، منذ طرح البرنامج المرحلي في الدورة 11 للمجلس الوطني (1974)، وكان الأجدى الإبقاء على ذلك الخيار، الذي يفترض تقويض الطابع الاستعماري العنصرية الأيديولوجي لإسرائيل، والإجابة على مختلف الأسئلة التي طرحها قيام إسرائيل، سواء بالنسبة لنا كفلسطينيين أو بالنسبة لليهود الإسرائيليين، من دون وضع هذين الخيارين في مواجهة بعضهما، أو وضع أحدهما كبديل عن الأخر.
3ـ اعتبار أن قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية في حين أنها كانت موضع استغلال من قبل الأنظمة العربية، إن لتعزيز شرعيتها في مواجهة شعوبها، أو لمصادرة حريات وحقوق مواطنيها، أو لابتزاز الأنظمة لبعضها.
4ـ عدم الاشتغال على خلق معادلات وإطارات سياسية تشمل الفلسطينيين في 48، لأهمية ذلك في تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة كفاحه ضد المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري الإسرائيلي.
5ـ لم تول الحركة الوطنية الفلسطينية الاهتمام المناسب مخاطبة المجتمع الإسرائيلي، واستثمار التناقضات فيه، وإيجاد مشتركات بين اليهود الإسرائيليين المعادين للاستعمار والعنصرية.
6ـ هيمنة «فتح» على المجال العام الفلسطيني، من خلال سيطرتها على المنظمة، ومؤسساتها، وعلى المنظمات الشعبية، الأمر الذي أضعف دور تلك المنظمات، وجعلها مجرد منظمات بيروقراطية.
7ـ ممانعة «فتح» تشكيل مركز قيادي للفلسطينيين في الضفة والقطاع في الانتفاضة الأولى، إذ أن ذلك كان من شأنه الإبقاء على مكانة منظمة التحرير كإطار جامع للفلسطينيين، وترك أمر المفاوضات لفلسطينيي 67 الذين كانوا يؤكدون تابعيتهم للمنظمة، وبالتالي كان يمكن تجنب ما حصل في أوسلو وبعدها.
8ـ غلبة شعارات وإنشاءات عاطفية ورغبوية على معظم الفكر السياسي الفلسطيني، في تلك المرحلة، رغم عدالتها ومقاربتها للحقيقة، إلا أنها لم توازن بين الواقع والطموح، والإمكانيات والرغبات، وبين العاملين الداخلي والخارجي، وبين الراهن والمستقبل.
9ـ اختزال قضية فلسطين بالأرض المحتلة (1967)، واختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الضفة وغزة، واختزال الحقوق الوطنية بإقامة كيان أو دولة مستقلة.
10ـ حصر الصراع مع إسرائيل بالأرض، فقط، من دون شمول ذلك الصراع على الحقوق والقيم المتعلقة بالحرية والمواطنة والعدالة التي تعني إضفاء معاني، أو مضامين، ملموسة أكثر على فكرة التحرير، وهي اللغة التي يفهمها العالم اليوم أكثر من غيرها.
هذه هي الأخطاء الأساسية برأيي، ومع أن ذلك كله لا يحجب الإنجازات الوطنية، وضمنها استنهاض الشعب الفلسطيني، وتعزيز هويته، وبناء كياناته السياسية، ووضع قضيته على جدول الأعمال العربي والدولي، إلا إن يفترض التنويه إلى أن تلك الإنجازات كانت تحققت في فترة مبكرة، مع الاعتراف العربي بمنظمة التحرير كمثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، واعتراف الأمم المتحدة بذلك، مع كلمة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من على منبر الأمم المتحدة، أي أن كل ما حصل فيما بعد كان فائضاً، بل وأدخل الإنجازات المتحققة في إطار التآكل، إلى حين اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى (1987)، والتي دخلت بعدها قضية فلسطين وحركتها الوطنية في طور جديد، وهذا شأن حديث آخر.
نقلاً عن الحياه اللندنية