بات قطاع غزة يستقطب الأجندات الدولية والإقليمية، كما أنه بات الشغل الشاغل للفلسطينيين، بحكم الانقسام والاختلاف والتنافس بين سلطتي «فتح» في الضفة الغربية و «حماس» في قطاع غزة، بخاصة على خلفية جمود عملية التسوية مع إسرائيل، وانسداد حل الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، ومع التوجهات الأميركية والإسرائيلية، الرامية إلى تكريس انفصال هذا القطاع عن الجسم الفلسطيني، في ما بات يعرف بـ «صفقة القرن».
بيد أن قطاع غزة بات يحظى باهتمام مختلف الأوساط المذكورة لأسباب أخرى، سواء تعلقت بالسياسات التي تنتهجها حركة «حماس» فيه، منذ سيطرتها عليه قبل 11 سنة (2007)، وضمن ذلك كيفية إدارتها الصراع مع إسرائيل، أو تعلقت بالخيارات التي يفترض عليها انتهاجها إن في ما يخصّ ملف المصالحة، أو في ما يخصّ التهدئة أو الهدنة مع إسرائيل.
في هذا الإطار، جاءت التصريحات التي أدلى بها يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في قطاع غزة (29/8)، إبان لقائه مع مجموعة من الكتاب والصحافيين، مثيرة جداً، ولافتة للانتباه. فبحسب السنوار، فإن «الحصار الإسرائيلي على القطاع سيكسر قريباً»، وإن حركته «ستقلب مرجل الجمر في وجهه (الاحتلال) وستدوي صفارات الإنذار في غوش دان (تل أبيب ومحيطها)، في حال فشلت جهود التهدئة وشن عدواناً جديداً على غزة.» وهدّد السنوار بأنه في حال «دفعونا إلى الحرب، فقوتنا أصبحت عشرات أضعاف عام 2014، موجات من الصواريخ، وما ضرب طيلة أيام عدوان 2014، على (تل أبيب) سيضرب في 5 دقائق، وسيتكرّر هذا الأمر مرات ومرات وكلما لزم الأمر». («فلسطين اليوم»، 30/8) والجدير ذكره أن السنوار كان أدلى، بعيد انتخابه في منصبه المذكور، أدلى بتصريحات أكد فيها أن حركته (حماس) « أحدثت حالة توازن كبيرة في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي» قائمة على «الردع والتكافؤ»، وأنها ماضية حتى استكمال «مشروع تحرير كل فلسطين». معتبراً أن «الأرقام (يقصد الإحصاءات) ليست لها قيمة كبيرة لأن قضية فلسطين تثبت مرة بعد مرة أنها تحظى بعناية ربانية». (فلسطين اليوم، 22/3/2017)
من هذا الكلام، يستنتج أن الفلسطينيين (لا سيما فلسطينيي القطاع)، إزاء مشكلة كبيرة، سواء مع «حماس»، أو مع العقليات الفصائلية، بمختلف توجهاتها التي تعتمد على الإنشاءات العاطفية، وعلى روح التضحية عند الشعب الفلسطيني، والافتقاد لتقاليد المراجعة كما لاستراتيجية سياسية أو عسكرية، ناهيك بتقديس العمل المسلح، وعدم إخضاعه للمساءلة والنقد ودراسات الجدوى، وتالياً عدم خضوع الفصائل الفلسطينية لتقاليد المحاسبة.
وبمعنى أكثر تحديداً، فإن المشكلة في تصريحات كهذه، عن توازن الرعب، وتوازن الردع، وزلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، ويا جبل ما يهزك ريح، أنها تنطلق من عقلية منفصمة عن الواقع، وعن المحيط، وعن التجربة. وفي هذا الأمر، أي في ما يخصّ قطاع غزة، فكأن حركة «حماس» تعتبر قطاع غزة في جزيرة معزولة، كأن ما يجري في المشرق العربي، من انهيارات مجتمعية ودولتية من العراق إلى سورية (وصولاً إلى لبنان واليمن)، لا يؤثّر في قضية الفلسطينيين، كأنه لم يعزز مكانة إسرائيل في المنطقة، ويجعل لها اليد الطولى لعقود، في المنطقة، بعد كل ما حصل، علماً أن إيران ذاتها، على ما نشهد، لا تستطيع القيام بأي رد على اعتداءات إسرائيل على مواقعها وقواعدها في سورية، على سبيل المثل.
خطابات كهذه ليست لها علاقة بالإمكانات الواقعية، أي هي لا تأخذ في اعتبارها موازين القوى، وحقيقة أن إسرائيل متفوقة عسكرياً على محيطها، وأنها فوق ذلك تحظى بدعم الدول الكبرى في العالم ورعايتها وضمانتها، من الولايات المتحدة إلى أوروبا وروسيا، فضلاً عن امتلاكها السلاح النووي، والمعنى في هذه الحال أن أي حديث عن صراع عسكري هو مجرد حديث ناجم عن أوهام، فشتان بين الطائرات الورقية الحارقة وبين الصواريخ والقنابل المدمرة التي تمتلكها إسرائيل.
أيضاً، خطابات كهذه منفصمة عن التجربة الوطنية ذاتها، تلك التجربة الغنية والباهظة الثمن والكارثية، وهنا لا بد من التذكير بجوانب مهمة عدة، أولها، أن قطاع غزة منطقة فقيرة الموارد، وكثيفة السكان، وتعتمد في إسرائيل على معظم حاجاتها، وضمن ذلك المياه والوقود والكهرباء والمواد التموينية، تبلغ مساحتها 360 كم2 (1,3 في المئة من فلسطين التاريخية) يقطنها مليونا فلسطيني، ونسبة البطالة فيها عالية جداً بين الشباب والخريجين، حيث تفتقد فرص العمل والاستثمارات، وهي تخضع للحصار منذ 11 سنة (2007). وثانيها، أن إسرائيل انسحبت من قطاع غزة، لكنها أعادت انتشارها، أي أنها قامت بفرض الحصار المشدد عليه، فقط من أجل إخلاء مسؤوليتها الأمنية والأخلاقية والسياسية عنه، أو التحرر منه، باعتباره يشكل عبئاً عليها، وهو منطقة تفتقد الموارد، ناهيك أنها في ذلك إرادت تحسين صورتها أمام العالم، والظهور بمظهر الساعي إلى التسوية، لكنها في الحقيقة تركته لهمه، ومشكلاته، ووضعت الفلسطينيين وجهاً لوجه لتدبر أمورهم، وإظهارهم غير مؤهلين لإدارة أوضاعهم. وثالثها، أن إسرائيل لم تعد انتشارها في القطاع بسبب خسائرها البشرية فيه، لأن الخسائر البشرية الإسرائيلية في الضفة الغربية هي أعلى بكثير، أي أن بقاءها في الضفة هو لاعتبارات أخرى، فالضفة أكبر بكثير (5000 كم2) وهي المجال الحيوي لإسرائيل وللاستيطان الإسرائيلي، وفيها مناطق خصبة، ومصادر مياه، ولها حدود طويلة مع الأردن، إضافة إلى كونها بمثابة «أرض الميعاد» بالنسبة إلى الأساطير الإسرائيلية الدينية. وبعبارات أكثر توضيحاً، فإن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في قطاع غزة، منذ احتلاله إلى وقت الانسحاب منه (1967ـ2005) بلغ 230 إسرائيلياً («هآرتس»، 23/8/2005) قتل منهم بين (1967ـ1987) 38 إسرائيلياً، وإبان الانتفاضة الأولى قتل 29 إسرائيلياً، في حين قتل 39 منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الانتفاضة الثانية (1993ـ2000)، وفي الانتفاضة الثانية قتل 124 إسرائيلياً (من أصل 1060). ورابعها، أن إسرائيل شنت ثلاث حروب مدمرة على غزة. الحرب الأولى، بين 27 كانون الأول (ديسمبر) 2008 و19 كانون الثاني (يناير) 2009، وهي استمرت 23 يوماً، وأدت إلى مصرع أكثر من 1436 فلسطينياً، وإصابة أكثر من 5400 آخرين نصفهم من الأطفال، في المقابل اعترفت إسرائيل بمصرع 13 إسرائيلياً بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين. الحرب الثانية بين 14 تشرين الثاني (نوفمبر ) و21 منه 2012، واستمرت ثمانية أيام، ذهب ضحيتها 155 من الفلسطينيين والمئات من الجرحى الضحايا مقابل ثلاثة إسرائيليين. أما في الحرب الثالثة التي استمرت 50 يوماً، بين 8 تموز (يوليو) و29 آب (أغسطس) 2018، فقد نجم عنها مصرع 2174 من الفلسطينيين مقابل مقتل 70 إسرائيلياً منهم 64 جندياً. في المحصلة، لدينا أكثر من أربعة آلاف شهيد من الفلسطينيين، وعشرات الألوف من الجرحى، بينهم الألوف من المعاقين، ناهيك بدمار هائل لبيوت وممتلكات شخصية وعامة، في مقابل مصرع 86 إسرائيلياً، في ستة أعوام.
على ذلك، وبغض النظر عما تتحمله «حماس» من إدارتها بطريقة أحادية وإقصائية وقسرية لقطاع غزة، طوال فترة طويلة، وبغض النظر عن الخطابات العاطفية والاستهلاكية، فإن ما يجري يفيد بأن «حماس» وصلت إلى طريق مسدود، وأنها أخفقت في الطموحات أو التوهمات التي حفّزتها على أخذ السلطة في غزة (2007)، رغم رفضها اتفاق أوسلو، فهي لم تستطع تحويل القطاع إلى منطقة للمقاومة، لا لتحرير فلسطين ولا لدحر الاحتلال من الضفة، بل إنها لم تستطع استنزاف إسرائيل، أو فرض نهجها في المقاومة، رغم كل الأحاديث المبالغ فيها عن توازن الرعب، ومعادلة قصف مقابل قصف، كأن الصواريخ أو الطائرات الورقية تعادل القصف الجوي الذي تتعمّده إسرائيل لضرب غزة عقب حوادث من هذا النوع.
لم تستطع «حماس»، بطريقتها في إدارة القطاع، إقناع الفلسطينيين، لا سيما في غزة، بأنها قدمت نموذجاً بديلاً للسلطة أفضل من النموذج الذي قدمته «فتح» في الضفة الغربية، وهي لم تستطع أن تقدم غزة كمنطقة نموذجية لتطوير المجتمع الفلسطيني، وتنمية إمكاناته، بسبب اضطراب رؤيتها، ومراوحتها بين الحديث عن المقاومة المسلحة حيناً وعن المقاومة الشعبية حيناً آخر.
وما يجري بخصوص التهدئة أو المصالحة يفيد بأن «حماس» وصلت، أو انتهت حيث وصلت أو انتهت غريمتها «فتح». ذلك أن حركة «فتح» كانت وصلت، بعد 28 سنة من الكفاح المسلحّ (1993-1965) إلى دولة - سلطة في الضفة، عبر عقدها اتفاق أوسلو مع إسرائيل، وبالطريقة ذاتها فإن حركة “حماس” وصلت بعد 31 سنة من الكفاح المسلّح (2018-1987) إلى “دولة”- سلطة في غزة، عبر الاتفاق الذي عقد بوساطة مصرية، بحيث بتنا إزاء “دولتين” أو سلطتين تحت الاحتلال، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مشروعاً عن قيمة الكفاح المسلح، وعن جدواه، مع نتيجة كان يمكن تحصيلها بوسائل سياسية، أو بوسائل كفاحية أقل كلفة، طالما أن الأمر يتعلق بحكم ذاتي لا أكثر.
عموماً، الأجدى من كل هذه الخطابات دراسة التجربة الفلسطينية بطريقة نقدية مسؤولة، وتحكيم العقل ودراسات الجدوى ووضع مصالح الشعب الفلسطيني فوق كل المصالح الفصائلية.
نقلا عن الحياه اللندنيه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع