بقلم - عزة كامل
فى هذا النهار القاسى، وبعد هدنة هزيلة، يتواصل القذف برًّا وبحرًا وجوًّا، إنها عقدة الكبت التاريخى لمذبحة النازية، «أنا الصهيونى أُقتل، إذن أنا موجود، ولابد من الإبادة الجماعية الوحشية للبرهنة على وجودى»، أذكر حديث صديقتى الفلسطينية: هنا وسط التوحش والدمار، الفلسطينيون صاعدون إلى الله، يربون الأمل، حياتنا عبء على الصهاينة.
جرح غزة أصبح ندبة عميقة فى القلب، أطفالنا لا يستحمون بالماء ولكنهم يستحمون بالقذائف والدم، يتفرقون فى رحلة التيه والشتات، يهربون من موت إلى موت، الزمن والتاريخ يتآمران علينا، لا وقت لتشييد القبور وتأثيثها، فكل أرض الوطن أصبحت قبرًا كبيرًا، لا وقت لطقوس العزاء، فالبرابرة لا يمهلون الوقت للحزن، كأن الموت يتحول إلى مادة لانفجار حياة الطغاة لتدشين مدن جديدة على أنقاض مدينتنا، يدفعوننا إلى حمل أحزاننا لنركض نحو المجهول إلى رياح المنافى، لا حضن نرتاح له، ولا صدر نبكى عليه، يريدون طردنا من المكان ومن التاريخ بلا أى حساب ولا ضمير، وكل منّا اكتنز بالرعب من انتظار الموت والدمار فى أى لحظة.
لا نعرف متى ستأتى القذيفة أو الصاروخ أو طلقة القنّاص المتربص بنا، عقارب الساعة تمضى سريعًا، لا أحد يقدر على استمهال الزمن، عقارب الزمن تمضى سريعًا، لا وقت يكفى لوداع البيوت والشوارع والأموات، وشهداؤنا صاروا أرقامًا فقط، كل شىء قيد التخمين والانتظار، لا شىء يمر أمام عيوننا إلا سيل الدم الساخن، وكأننا عابرون فى أشلاء عابرة، لا نستطيع ترميم ما انكسر من الزمان والروح، يكبر الوجع فينا، وتكبر رائحة مدننا، رائحة الحنين والمنفى والتهجير، وتختلط هذه الروائح برائحة أشجار الزعتر والمريم والليمون والبرتقال والزيتون والخبز الطازج والحليب الساخن، ويصم آذاننا أنين الأطفال المدفونة تحت الأنقاض، هؤلاء الأطفال الذين لم ينهوا طعامهم ولا لعبهم، وصراخ الأم المكلومة.
ونرهف السمع إلى صوت صراخنا، فنصرخ ولا يخرج صراخنا، وكأننا فى كابوس طال زمنه، كابوس لا نصحو منه أبدًا، يأخذنا إلى سحابة سوداء ليبتلعنا دخانها المسموم، نحاول أن نعثر على هويتنا المهددة بالفناء، وحلمنا الذى يفر منّا بعيدًا، وتختلط علينا كل التواريخ والأساطير، فنمضى إلى المجهول الغامض، ونحاول أن نعتصر الذاكرة بهشاشة المنفى، وننظر إلى المرآة الشاهدة، فلا نتعرف على أنفسنا المشتتة، نرى فقط بحيرة دماء لا يبلغ البصر مداها، ونشوة العدو من مشهد الجثث وهى ترتجف رعبًا وهلعًا من آثار الذبح، ومع ذلك يا صديقتى الحبيبة: «الفلسطينيون صاعدون إلى الله يربون الأمل».