بقلم - عزة كامل
من أى فجٍّ عميق أقبل حصان الريح يطوى جناحيه ويمر سريعا بقدميه الرشيقتين عبر شقوق الطين، ما بين الحمحمة والصهيل، وارتفاع الأصوات المذبوحة تنهش قلبه، وتغرس حناجرها فى عنقه، وتتدفق حوله الظلمة القاتمة، ويهدر الدم الأسود يكسو الأرض والسماء والفضاء كله؟!.
حصان الريح يخبُ فى الظلمات بين الأنقاض المتناثرة والموحشة والمخيفة، يحمحم فى برية التيه، يعبر أرض الموت والدخان، تصعقه ألسنة البروق والرعد الصارخ وسط أشباح الليل التى تتلو التعاويذ على وجه القمر المعتم!، وفلسطين تجرّ بقايا الأكفان اليومية، وعصارات الأحزان التى أصبحت طقسا معتادا تستحم بالدمع والدم، تسطر تاريخ الجريمة، وهى تلملم بقايا الأحفاد، تصرخ بصوت مقهور، تمطر شفتيها أغنية الوداع الأخيرة.
الأرض صارت خناجر وقنابل وألحفة للغدر، والعالم المتوحش حولها يرقص احتفالًا بالموت، وزبانية الخراب يوزعون كسرات الخبز المغموسة بالدم، وفلسطين تصرخ: آه.. آه أيها الزمن الغابر والغادر، آه أيها الزمن التعس والظالم، زمن الغدر والخيانة، آه أيتها القلوب التى مازلت تنبض، تشطرك الرؤى المخيفة، آه يا أرض الصبر والموت والشهادة والحياة والجنون والتشرد واليتم، هذا زمن الرعب والقهر الملعون، زمن الجوع وزمن المسوخ، آه يا أرض البركان الفادح، تتألمين بأثقال المنافى، والسيل جارف ينزعك من جذورك ويبدد خطاك ويحرق زهوة النهار.
الطغيان طافح يحطم زيتونة الحلم، ويحبس مداد الروح، ويحرق الحناجر، الرعب شبه أخرس، وشهوة القتل تجلجل، وترقص عبر المذابح، والعيون المفعمة بالشر يأتى منها السيل والطوفان، فينفرط الموت على الجدران والأحجار، وانفرط معه، وينبجس الزلزال والوجع العصى، نوافذ الروح أغلقت، والفجر ماعاد ينشر غبشه، والمواويل تنوح على الأطلال والأحداث، عصية تلملم ما بعثرته أسهم الظلمة.
الإرث والذاكرة يهذيان، آه يا وجوه أطفالى التى عشعش فيها الموت وهمد صخب إيقاعهم، ترقدون وحيدين فى سبات مؤلم، وفى أكفانكم البيضاء المخضبة بالدماء فى هذا الليل الصقيع، الليل الأبكم. آه يا أطفالى، أسمع وجيب قلوبكم تحت قماط الكفن الصامت، بروق العار الصاخبة تحرق الصرخات المكتنزة بالرعب، حاشية الريح تهزم أردية الليل الحانية، وتطلق بومة الأحزان تنعق على ما تبقى من نثار الأجساد، وتنفش ريشها، وتلعق دم الخبز، وتمزق عبر الغيم حاملة رائحة الموت والجوع والرعب، وتتعالى قهقهة القاتل السفاح المجرم والوحشى، تضيق الأرض على شهقة طفل محبوس فى رحم أم فارقت الحياة، وخفافيش الليل تصر صريرها الوحشى.