بقلم - عزة كامل
يا شجرة الزيتون العظيمة، الريح الشمالية العاتية تتهاوى بين أغصانك، وجذورك الأصيلة متشعبة فى الأرض الجليلة، وشاهدة على كل الجرائم، تأنين فى صمت، وتشمخين بكبرياء، تجتازين الأيام والأزمان، تتعاقب الأجيال مبهورة بصمودك فى مهب الريح، عذبة تلك الحكايات التى تختزنها جذوعك، عندما تهب الريح العاتية تصبحين الرمز والأسطورة، تحتفظين بهدوء غامض، يقبع تحت أحزمة من اللهب الكامن، أيتها الشجرة التى تفيض قوة ونبالة عالقة بين انجذابها نحو الأرض وشموخها نحو السماء، تظهرين حكمتك، وتهمسين بحفيفك الناعم، تملئين ما حولك بأمل خالد، تقدمين ثمارك المشتهاة التى تصنع البهجة.
أيتها الملكة غير المتوجة، تحت جذعك يولد الأطفال كبارا، يدعسون ثمارك بأقدامهم الصغيرة، ويلهون، ويطلقون الضحكات، وأنت تسكبين لهم حبا ينعش الروح وتسردين حكايات الأجداد لتجعل الأرض تنتفض تحت أقدامهم وتغزلين بمهارة فائقة شباك حب الوطن، وصوت سريان نسغك يهددهم كاسرا الأصفاد القديمة، ويجعلهم متحررين من كل خوف، وفى الليل عندما تهب نسائم العشق على أغصانك، تنسجين قصص عشق لها رائحة زيتونك الخالد.
منذ ألف ألف عام والريح توشوش الفضاء من حولك، وأنت بشموخك تصرخين فى وجهها: هذه أرضى، أرض فلسطين العفية، وهؤلاء أطفالى، وهنا عاش ومات أجدادى الأوائل)، وتطلقين زفيرك المفعم برائحة الحياة والحب.
الآن أيتها الشجرة الجليلة أصبح الجو مفعما برائحة القتل والرعب، والحليب الذى اختلط بالدم فى بيت الله، إنه الجحيم الذى نزل على أرضك ونثر الموت نثرا فوضويا، وأنت الآن تقشعرين غضبا، فلقد توقف يسوع عن السير وإعطاء بلسمه الشافى، بينما السماء تمطر قنابل ورشاشات، وتقهقه الشياطين وهى تنفث دخانها الأسود، وأطفالك يتساءلون: لماذا امتلأ وجه القمر بالذئاب؟، لماذا اختزل العالم إلى كتلة من التوحش والابتذال والكذب؟، إنها لعنة الزمن وإبادة فاقت كل من سبقها.
يا شجرة الزيتون الحزينة: من يستطيع أن يعيد لك روحك العظيمة، وقصص العشق، والأغانى والسحر اللذين ينسابان من حكايات الناس والطير والحجر؟، من يستطيع أن يوقف تلك الريح المجنونة الممتلئة بنثار الشر والتوحش؟، وجعلت كل شىء يكتسى بوشاح الموت الأسود، والسماء محملة بالخوف، والضباب احتشد مبددا الدعاء الذى يصل إلى روح الأشياء، والأطفال والكبار والشيوخ يهرولون من حولك يبحثون عن أصواتهم وملامحهم وهوياتهم، الأطفال يا شجرة البقاء لم يعودوا أطفالا للأرض بل صاروا أبناء للسماء، والعشب البرى الأخضر اكتسى بلون الدم، تأتى الإجابة منك أسمعها بقوة: باقون على هذه الأرض الطيبة، باقون إلى يوم الدين.