بقلم - عزة كامل
فى غبش الفجر يأخذنى حنين خفى إلى هناك، أتذكر الأماكن والبيوت والمقاهى والحدائق، أشم رائحة قهوة جدتى وخبزها الطازج، وطعام أمى وعطر أبى، تمر أطيافهم كخاطرة فى الليل، وأسمع كلماتهم العامرة بالشجن والانفعال، أقلب أحوال قلبى على ضفتى النهر، أسير ثقيلة كأننى حجر يأبى التحرك من مكانه، ماذا أفعل فى هذا الفضاء المبلل بالدموع؟.
كل ذكرى أحِنّ إليها هى معركة للنجاة، شرفة الذاكرة مشرعة فى هذا الضباب الكثيف، وأنا أتجول فى المكان، جلست على مقعد شاغر فى الحديقة، وهناك على المقعد الخشبى المقابل كانت تجلس وحدها كأنها على موعد، أحييها، فلا تلتفت إلىَّ، ولا ترد التحية، حدقت مباشرة فى عينيها، تململت فى مقعدها قليلًا، ثم أخذت تختلس النظر إلىَّ، ثم أدارت وجهها، ترى فيمَ تفكر هى الآن؟، فجأة اختفت، كأن الأرض انشقت وبلعتها، صرخت لأوقظ نفسى من الوهم، لقد كنت وحيدة على مقعدى، ولم تكن هناك أخرى تجلس أمامى.
لم يكن هناك إلا ظلى، تيقنت أن هذه الأخرى ما هى إلا أنا، ظل يصارع ظلًّا، نهضت ومشيت أطوى ظلى، وأتحسس جسدى الذى أصبح طيفًا هامسًا، يزغلل عينى وهج ضوء النهار الذى يتلكأ، أدركنى التعب، أوراق الأشجار ترتعش كأنها تسخر من شرفة الذاكرة، التى لم تعد تؤنس وحدتى، أسمع همسًا: «كم أنتِ أسيرة الذكريات»، ما أقسى الانتظار واللاانتظار.
فى هذه اللحظة مزقنى الحنين الذى يوخز القلب، عيناى محدقتان، بينما أحاول أن أتنفس فى ذلك الحر المشرب بالرطوبة، تبدو الأشياء أمامى كلوحة غير مكتملة لرسام يعانى الوحدة، حين يخبو العمر تصبح الوحدة أكثر قسوة من الموت، أصرخ فى هذا الفضاء القاسى: «إننا بشر، ولسنا حجرًا، نثرثر حين يجف الكلام، نحب ونحزن ونفرح ونحتاج إلى خيال يحفزنا، وأمل يؤنسنا، شهوتنا للحياة أقوى من الموت، يوجعنا شوك الورد حين يجرح جدار القلب، وحين نفيق ولا نجد الحلم، تتسرب الحياة بكامل نقصانها أمامنا، ويصبح الخيال سجينًا لماضٍ لم نُشْفَ منه».
لقد كانت أمنيتى فى صباى أن أكون بحّارة، أجوب البلاد والبحار وأصادق الطيور والأسماك، وأستمع للحكايات والأغنيات، وأمنح حبى للأشياء دون مقابل، ولا أخشى ظلمة ولا إعصارًا، ويخفق قلبى مع أبعد نجم، بحّارة تستبعد الموت، وتؤمن بالحياة، تحمل الحب والود والألفة بين ضلوعها، وتملك فضاء اليابس والماء، لكن ما أصعب الأمنيات، فهى بعيدة المنال، وبالرغم من لجّة الوحدة العميقة، مازالت الحياة ترفرف بين طيّات روحى مجددًا.