بقلم - عزة كامل
أيها العالم، أنت فى حاجة إلى صدمة استثنائية، فى حاجة إلى أن يفيق المغتصبون من فتنة صورتهم المنعكسة على صفحات الماء، تلك الصورة التى جعلت قلوبهم نرجسية. أيها العالم، استمع إلى أصوات أبناء الحجارة، الذين يرفعون أصواتهم عاليا: «مازلنا أحياء بقوانين المقاومة، تمر السنون والعقود ونحن صامدون، وسنظل نسير فى الزمن بعزائمنا التى لا تفنى، وأجسادنا الثائرة، نطبع أثرا تلو أثر فى التاريخ والأساطير، نحتنا أزميل النحات من صخر صلد، فمهما تآمرت الأصوات الصامدة المثقلة بكثير من الخزى والعار والخسة، فلن يفتتنا ذلك، إنهم أرواح تتغذى من ظلمات، ونحن نتغذى من سطوع الشمس، وتمتد جذورنا فى الأرض والسماء، المقاومة فى عقولنا وقلوبنا وعيوننا، وفى طعامنا وشرابنا، نطلق كل صيحاتنا إلى مداها: عاشت فلسطين حرة آبية».
(2)
بالأمس قادتنى قدماى إلى القهوة المطلة على النيل، جلست إلى ركن بعيد، رغم أن المكان كان خاليا فيما عداى، فجأة فاض كيانى كله بما اختزنته من ذكريات، ومضيت أفكر فى السنين التى عشتها، كما لو كانت بالأمس القريب، مرت أمامى الأيام الخوالى كظلال شموع خافتة وخابية، وهمست فى أذنى أصوات خفية حبيبة وناعمة، شاركتنى حياتى فى مقتبل عمرى، ونحن نندفع بصدورنا لنعب من الحياة، آملين أن نحطم جحيم المدينة، كانت أصواتنا مدوية كأحلامنا، يا الله كيف باغتنا الوقت وأصبحنا نغالب الزمن بذكريات محاطة بالشجن والشوق، وتبعثرنا كنسمات مشتتة واهية مترنحة، وارتسمت ظلال الحزن فى القلب، وأصبحت أصواتنا صامتة مثقلة بكثير من الحزن، حاولت أن أصرخ بملء صوتى، فلم أستطع، وشعرت أننى عصفور قص ريشه عمدا، الوحدة تجعل الروح تتحطم على أسوارها الصلدة، وترمى بالآلام على الأكتاف.
(٣)
فى ساعة متأخرة من الليل سمعت فجأة غناء شجيا، اقتربت بخطى ناعسة من النافذة، أبصرت وجهًا شاحبا فى منتصف العمر جالسا على الرصيف يشدو بموال حزين:
«عدَّى النهار والمغربية جايَّه
تتخفى ورا ضهر الشجر
وعلشان نتوه فى السكة
شالت من ليالينا القمر
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
يا هل ترى الليل الحزين
أبوالنجوم الدبلانين
والليل يلف ورا السواقى
زى ما يلف الزمان
وعلى النغم
تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان
تحلم ببكرة واللى حيجيبه معاه
تنده عليه فى الضلمة وبتسمع نداه
نصحى له من قبل الأذان
واحنا بلدنا ليل نهار
بتحب موال النهار
لما يعدى فى الدروب
ويغنى قدام كل دار