بقلم - عزة كامل
الجرح: خمسة وسبعون عامًا ونحن مُحاصَرون بالجدار والسجن والدمار، خمسة وسبعون عامًا من التهجير والرحيل ونهش الذئاب، والليل يمضى والوطن جرحه نازف عصى على التضميد، والأمهات تحترق أكبادهن وتصرخ أحشاؤهن من فقدان أطفالهن وأحبابهن، ما أصعب كبرياء الحزن حين تصبح كل الليالى دميمة، والوطن مقبرة مفتوحة، ويظلم وجه النهار، نحن فى وحشية نموت، وتموت معنا القلوب والأحضان، لم تبقَ إلا أشلاء الأحلام وحطام الآمال، لم تبقَ إلا الأطلال وجثث تمتصها الضباع، لكم تمنينا لو أن سفينة نوح تمر من هنا، وتمد ظلها الحنون وتنتشلنا من هذا الجحيم.
الظل: نعم، نريد سفينة نوح، ولكن نريدها أن ترسو على أرضنا المخضبة بالدماء ولا تبحر بنا، ولن نغادرها أحياءً ولا أمواتًا لأننا سنصبح لعنة كل الذين اغتصبونا وأحرقونا، سنجعل عيوننا تقتات أحلامهم وأجسادهم وتسحب النور من أيامهم، وسنجعلهم يحترقون بالنار التى احترقنا بها، وسترتد على صدورهم رصاصاتهم وقذائفهم، وستفر خفافيش الليل، وسنجعلهم يتناثرون رعبًا ونحن نبصق فى وجوههم، وسنرفع وجوهنا بعد انكسار، ولن نفر من ليل مظلم، ولن نموت غرباء، وسنرفع راياتنا فوق الجبال والتلال، وسنمحو الخزى والعار، وسنبنى على أنقاضه ديارنا وأغانينا، ونزرع الأزهار والشجر.
الجرح: فلسطين يا وطننا الغالى، الأرض والناس والشجر، إلى عينيك نرنو، طامعين فى بعض حياة وشعاع فجر ينعش الأجفان المغلقة، امنحينا نحن التائهين الحائرين على دربك الرحب دفئك، امنحينا الخلاص وأغنية الانتصار المجيدة، لا تجعلينا فقط حكاية وقصة صمود، فالبكائية لا تعيد الوطن العظيم، بل يرقص على أشجانها المهرجون والفرسان المهزومون دائمًا.
الظل: نحن متعبون يغتالنا الحزن، نحمل صلباننا ونمشى على الشوك، يا وطننا لن نبرح أرضك لآخر نقطة دم تنزف على الصليب، ولآخر طير ينقر عيوننا، ستتسمر أقدامنا النازفة عليها لكى تحتضن هضابها وبحرها، سنمد قاماتنا العالية فى الفضاء، نطاول السماء ولن نغادرك أبدًا، نحن رابضون وحدنا على خطوط النار المفتوحة والمشرعة فى وجه الطوفان الأحمق، نصد جحافل الوحوش، ونوقد شعلة الحرية رغم المنافى وليل السجون والموت الغادر.
الجرح والظل: سنموت واقفين كالأشجار لنمهد الطريق لشعلة أخرى، ففى حبك يا وطن ينهزم المستحيل وينبت عشبك فى القلب، سنصمد فى وجه الريح الغادر، نقاوم ونقاوم ونقاوم، وسيحملنا طائر الفينيق على جناح الضوء نحو سمائك دائمًا وأبدًا، ولابد أن نعود نحن إليك وتعود يا وطننا إلينا مجددًا، وسوف نحررك من اللصوص، الذين اخترعوا وطنًا لهم استنادًا على حلم أسطورى زائف.