بقلم - عزة كامل
رأيت الموت وجهًا لوجه، شاهرًا وجهه القبيح على شاشة التليفزيون وصفحات فيس بوك وعلى وجوه الناس وفى الشوارع والمقاهى، رأيت أطفالًا مذعورين يهرولون هربًا من ساحة الحرب، تاركين إخوتهم الرضع وأمهاتهم وآباءهم وآخرين ضاعت صرخاتهم تحت الركام.
رأيت براميل متفجرة تدمر الأخضر واليابس شوارع وبيوتًا ومدارس ومستشفيات، أحدق إلى الشاشة، فتتناثر أمامى حياة الشهداء، وأشياؤهم الصغيرة، دفاترهم وكتبهم وبطاقات هوياتهم، والطائرات الملونة ودمى القماش، وأصص الزرع الملونة، جدائل البصل والثوم والفلفل المعلقة على جدران الشرفات، حقائب المدارس، الثياب، مفاتيح بيوتهم العتيقة التي تنتظر العودة، علب المساحيق والثوب القديم المطرز، الكوفية والشال الحريرى، الصفصافة العالية وشجرة الزيتون.
حياة كاملة دُمرت، والريح تحمل أشلاء الموتى، حصار من البر والبحر والجو، وغارات متواصلة، جثامين مسجاة، بل أكوام دُفنت بلا أكفان وبدون جنازات، والقتلة يضحكون في المؤتمرات الصحفية، واجتماعات مجالس الحرب، وهم يتفرجون على المذابح، يبتهجون ويفقدون وعيهم من النشوة، نشوة جنون القتل، كل القتلة متشابهون، كل القتلة وحوش، لا قلب لهم ولا ضمير، كاذبون وجبناء.
لا أعرف ما إذا كنت في غفوة أم في صحوة، في هذا الليل الأسود الدامس الذي نأت وابتعدت وغابت عنه النجوم، في هذا الليل الدامى الذي لا يترك لنا أي مجال للتأمل في جدوى هذه الحياة، لكن الشىء المؤكد أننا لا شىء أمام كل هذا الخذلان والصمت المتآمر، والغطرسة والدونية من المتحالفين مع العدو، والغياب التام أمام حضور كل هذه الأشلاء والقبور الجماعية والغيوم السوداء والأطلال، وأخشى أن نكون قد اعتدنا مناظر ومشاهد ذلك القتل والإبادة الوحشية والأشلاء المتناثرة وسحب الدخان الأسود والنيران المستعرة من فرط ما تكررت وأصبحت مُمِلّة، فلا نكترث، ونفضل ألا نتابع ما يحدث وكأننا نتفرج على فيلم كئيب ومحبط، غير مبالين بأن هناك بشرًا في «غزة» المعزولة، المُحاصَرة، المسجونة، المُتآمَر عليها حتى تموت من العطش والجوع، فلا ماء ولا وقود ولا خبز ولا دواء.. غزة المعزولة قيد الهوية وقيد التهجير وقيد الإبادة الجماعية، غزة التي جرَت دماؤها شلالات هادرة في البحار والأنهار وعلى ضمائرنا، وأن أهالى غزة يحتاجون إلينا، وأن قضيتهم هي قضيتنا، وأن عدونا واحد، مهما اختلفنا، وإذا انكسرت غزة فسننكسر جميعًا، وسيفترسنا الذئب، وتذكروا أن المقاومة تولد من رحم الموت والإبادة، تذكروا أننا نحن الشىء الناقص في المشهد، وأن جرحنا القديم مازال ينزف حيًّا، وعلينا أن نستعجل الليل أن يفتح أبواب الفجر.