بقلم - عزة كامل
الصباح ينذر بخريف متأخر، من غبش الماضى يطالعنى وجه عائشة ذات الأعوام العشرة والعينين الواسعتين وهى مهمومة عابسة، تحمل فى يديها أكياس الخضروات والبقالة، تسرع مهرولة لتتحاشى صفعات ستها
«فوقية»، وشدها لشعرها إذا تأخرت، أسير خلفها ورغبات كثيرة تراودنى، أتخيل نفسى أتشاجر مع الست
«فوقية» وأصرخ فيها، أو أسب أباها الذى أتى بها من قرية نائية لكى تعمل خادمة وغادر دون أن يمسح دموعها، فقد كان مشغولًا بالنقود التى حصل عليها كأجرة عنها، وأول كل شهر يأتى ليأخذ أجرتها الشهرية ويكتفى بوصايا الطاعة وعدم التمرد، ويرحل، وتظل هى تبحلق فى الدرج الذى يهبط عليه ربما يعود ويأخذها حيث البيوت والغيطان والأغنام والحمير.
كم لعنت الفقر ولعنت المدينة الغريبة عنها، فى إحدى المرات مرضت الست فوقية وأرسلتنى أمى إلى بيتها لأخبرهم أنها ستأتى لزيارة المريضة، بعدما أديت مهمتى، أشارت لى عائشة بيدها أن أتبعها، لاحظت أن أصابعها ملوثة بالحبر والألوان، سرت خلفها إلى حجرة «الخزين» حيث تنام، انتابنى إحساس غريب بأن ثمة شىء «يولد هنا»، أخرجت من تحت فرشتها الضيقة صرة صغيرة، فتحتها وفردت محتوياتها على الأرض، إنها أوراق مرسوم عليها وجوه متنوعة وجميلة، فقط وجه واحد ملون، رأيت وجهها يتسامق وهى تقول هذا وجه أمى، وأنا متشاغلة بتلمس تلك الوجوه، أخذت تحكى حكاية كل منهم، تلك الوجوه المحفورة فى ذاكرتها بقوة وإصرار منذ أن تركتها عندما غادرت القرية.
حكت عن رائحة الخبز ورائحة الزريبة وكلبها الرابض على بابها «ديب»، وصوت أبيها الأجش وهو يوقظها لتساعد أمها فى تحضير صرة «طعامه» قبل خروجه إلى الحقل الذى يعمل فيه بأجر.
سنوات مضت وهى ترسم الوجوه وتنتظر الخلاص، وفى يوم شتوى بارد بعد منتصف الليل والشارع غارق فى صمت رهيب، داهمنى القلق وقفت فى الشرفة، رأيتها تخرج من باب العمارة، تائهة النظرات تتلفت حولها، وتهرول، أحسست أن الضباب يخترق جلدى، تساقطت الكلمات من شفتى وأنا أنادى عليها، لم تسمعنى، فجأة انحبس صوتى وتحولت إلى حجر أصَمّ، صار للفضاء رائحة غريبة، صوتها يرن فى أذنى، ألمح وجهها يحلق كغيمة عطشى أمامى، تمطر على رأسى، تلسعنى رعشة البرودة، ورعشة أيامها وعوالمنا المنفصلة، أسمع صوت ضربات أقلامها الملونة على الأوراق البيضاء، والوجوه المرسومة التى لم تكتمل، يزداد المطر غزارة، ينقطع ثم يعود كروح عائشة التى تطير محلقة حولى.