بقلم - عزة كامل
كنت طفلة تعشق القمر والحكايات العجيبة والمدهشة، ويرفرف قلبها لأشواق العصافير الحرة المهاجرة، تتأثر بالضحكات الحلوة من أصدقاء الطفولة، وتستغرقها سعاداتهم المختلفة، وذات ليلة أثقل جفنى الخدر، وشعرت أننى أسامر أطياف الليل، وخُيل لى أننى رأيت امرأة مسحورة كجنيات حكايات ألف ليلة وليلة تفرد جدائل شعرها الغزير بطول النهر، ثم تعرض محاسن جسمها العارى للريح أمامى دون أى تحفظ، وتغوى صبية ينشدون أغنية النار، وعندما اقتربوا منها أخذتهم إلى قاع النهر فجأة.
جريت أصرخ عبر دروب الليل العميقة غائمة العينين، ورحت أطرق الأبواب المغلقة، فلم تستجب لصراخى إلا كلاب الشارع، فأخذ خوفى ينتشر فى عروق الأرض التى انشقت عن صبى صغير يلوح لى بمنديله الممزق، وبجواره حجر أسود نُقشت فوقه حروف مبعثرة: «أبحر أيها القلب الممزق، أبحر مع كل القلوب الممزقة، فالأحلام معتمة، والقلوب من خشب، والعقول من حجر».
الطفل كان يتلعثم، فحاولت أن أقرأ شفاهه: «قُتلنا يوم تخليتم عنّا، وحين زغردتم على جثة الشهيد، وأقمتم ليالى الفرح المكذوب، وحين غابت فى جدار الصمت كلمة حق، وحين حفرتم على المرايا وجوه القياصرة والنخاسين والقتلة، وعندما تركتمونا لتكبر أحزاننا، وتكبر جروحنا، وتجف أصواتنا وتتحجر، وسمحتم لوجه الباطل أن يكبر أيضًا، فأصبحنا مجرد أوراق تتلاعب بها الريح، وأصبحت حكمتكم مثل الحقيقة العارية».
وقفت أمام الصبى وقلت له: أيها الصبى الممزق: أوجعنى أن يُسفح دم الأطفال فى فلسطين، وأحزننى أن أشهد النساء يصرخن على فلذات أكبادهن، أحزننى الصمت الذى لاذ به الجبناء، وتخلّوا عنكم، أحزننى أن أرى الجوع يبقر البطون، وأن أرى أرض فلسطين صارت مأوى للغزاة الطغاة، والفلسطينيين يمشون على الشوك فى ألم أبدى، لم تنقذهم سفينة نوح، ولا دموع وصبر أيوب، يغرقون ولم تبصر أعينهم شاطئًا ولا مرفأ، وضاع صراخهم الصاعد فى البرية عبر المدى، فقال لى: كلامك لغو، ومجرد أقوال تنعى حظنا العاثر التعيس، فشعرت بقلبى يغمغم، ويذوى مثل أوراق الخريف التى تتساقط وحدها، والضوء من حولى كان خافتًا وشحيحًا، ققلت له: لا أملك إلا الكلام الذى يتحول إلى صرخات، لعلها تقلق مضاجع السفهاء، وتبدد الوحشة، وتكشف كذب الكهان الذين يُلبسون الكذب ثوب الصدق، أجفلت عيناى الصبى، وتركنى وجسده يلفه الغيم والضباب، وفجأة انشق الفضاء عن طائر يحلق ومن خلفه سحابة تضىء، غمرتنى حفنة من صفاء روت قلبى وغسلت روحى، واندفع النهار مبددًا عتمة الليل، ويمد حبلًا من أمنيات وأمل