بقلم:عزة كامل
بسرعة تمضى الأيام بين جدران أسمنتية، حجرة النوم، صالة الطعام، حجرة المعيشة ذات الأبواب الرمادية بانعكاساتها بالغة الشحوب، أتمنى أن تكون الأيام المتبقية خفيفة رحيمة بى، فالحواس مشتتة ومحاطة بالسأم والتبلد المحض، صدرى يحترق، والغضب يشتعل فى عينى، أريد تمزيق المتبلدين الذين لا يحسون بشىء، هؤلاء الكائنات من حجر، المدينة تلتهم أبناءها، وتجعل كل شىء حى يذوب ويتلاشى، ويبقى فقط الكاذبون، المنافقون، الخادعون، الذين يحولون كل ما حولهم إلى أشياء عفنة.
دوامة مظلمة تجعل الحياة عاجزة عن صنع الجمال والطيبة، الأشرار يجثمون على الأفئدة، دوامة ينصهر فيها الشقاء بالوحل بالجنون بألوان الفجور، إلى أين نحن نسير؟!، بأى خطأ استحققت هشاشتى الحالية؟، لقد حاولت دون جدوى ابتكار حياة جديدة وصبر لا نهائى، ذلك هو لسان حال المرأة ذات العينيين الرماديتين، والركبتين المتصالبتين، وحيدة لا أخوات لها، ولا أقارب، ولا أصدقاء، تتمدد على فراش فقير فى ليلة حالكة السواد، يخطفها الحلم، ترى نفسها هاربة بين صرخات الأطفال وعواء الكلاب ومطاردة المتسولين وصهيل الأحصنة.
قبل أن يبزغ ضوء النهار فتحت النافذة وأخذت تعب من الهواء النقى، تطلعت إلى السماء، فرأت كتل السحاب تتجمع، وتشكل منظرا بديعا مع مرور سرب من الطيور تعلو وتهبط فى دوائر متقاطعة، بحركة لا إرادية مسحت العجوز يدها فى سروالها، شعرت تقلصا فى فكها الأيمن تمنت أن يأتى من يملس على وجهها ليفك هذا التقلص، مشت تتلفت حولها، باحثة عن هذا الساحر الذى يشفيها، ثم رجعت تحدث نفسها بصوت مفعم بأسى عميق:
(كم أنا وحيدة، أريد أن أصرخ، ولكن أى صراخ ينبغى أن أطلق؟)، بدأت أضواء النهار تعلن عن وجودها، وأقبل طائر ملون من الطيور المحلقة، ووقف على إفريز النافذة وأخذ ينقره، وما لبث أن هبط ببطء عدد من الطيور، وأخذوا ينقرون ليشكلوا سيمفونية معا، أسرعت العجوز، وأحضرت بعض الحبوب ووضعتها على الإفريز، فى ثوان كان هناك عدد لا يحصى من الطيور تلتقط الحبوب.
أوشك نور النهار أن يكتمل، ولمعت فى عينيها دهشة مفاجئة عندما انصرفت الطيور معا مرة واحدة، وحلقت فى تشكيل هندسى بديع، وابتعدت، تنهدت المرأة وقالت فى صوت هامس: ما أروع الحرية، بل ما أروع الإحساس بالحرية، وهرولت إلى الداخل وعادت ممسكة بقفص مطلى باللون الأزرق وفيه عصفوران جميلان من الكناريا، اقتربت من النافذة، فتحت باب القفص وانطلق العصفوران يحلقان بقوة وسط ترديدها حرية.. حرية.