بقلم - عزة كامل
أتأمل رذاذ المطر من خلف نافذتى. للحظة خاطفة، ألاحظه وهو يبلل روحى، تقف فتاة صغيرة فى مواجهة النهر تلوح بشالها الحريرى المتراقص وهى واثقة من نفسها، فرحة بالمطر الذى يغسل وجهها، يا له من مشهد جميل للغاية، كانت تضحك للنهر ببراءة، وخُيل لى أن البحر يضحك هو أيضًا لها، وبحياء واضح دون أى التباس، غمرتنى سعادة ناقصة فجأة، كما سمعت بأذنىَّ صرخات الأطفال وأصوات الأرواح الهائمة على صفحة النهر، الذى تحول لونه إلى لون الدم.
وعلى ارتفاع منخفض، رأيت النسور تحلق، أحاول أن أستعيد بهاء اللحظة التى سبقت هذا المشهد الكابوسى المفزع، ولكن كيف؟، فلا مطر يشبه مطرًا، ولا صمت يشبه صمتًا آخر، وأنا أصبحت اثنين فى واحد، مشتتة بين مطر هنا ومطر هناك، وهناك الزمن ينصب فخاخه دائمًا حولى.
أحاول أن أنجو من سؤال جارح، ماذا فعلتم لغزة؟!، تتأرجح بين حنجرتى غصة مؤلمة تجرح الإجابة، وتفتت الكلام، يهزنى صدى جائع ينتظر الإجابة المبللة بالماء، نظرت إلى كل ما حولى، فوجدت فراغًا شاسعًا باتساع الكون، وشعرت بيأس، تبخرت الكلمات وصفعتنى الصور الدامية، وسافر نور قلبى مع الريح هناك، وحملتنى على سفح هاوية من ركام، وجاءت الإجابة من أطفال استُشهدوا جراء القصف الموحش: لا نريد منكم أى شىء، تذكروا فقط شعور الأطفال المرير عندما يفقدون المنزل وغرفة النوم والملابس والألعاب وكراسات كانوا يكتبون فيها أحلامهم، خبزهم وصحونهم المفضلة، وأنتم تتلفحون بشالكم، تذكروا الأطفال وبقايا الأسر الذين تُركوا فى العراء يعانون البرد والجوع، تذكروا وأنتم تأكلون طعامكم الساخن أن هناك أطفالًا ماتوا جوعًا فى العراء، تذكروا وأنتم تحتفلون بأعيادكم، وتتطاير بالوناتكم، وتشعلون ألعابكم النارية، أن أحياء كاملة تحولت إلى أكوام من دمار.
غزة مازالت تحت القصف بالصواريخ الاهتزازية بدون صوت وقنابل الغاز، تذكروا وأنتم تتكلمون من حبسكم فى اجتماع لا يتجاوز مدته ساعة واحدة، أن سكان غزة كلهم رهائن، وغزة رهينة، وأن حكام العالم يغلقون قلوبهم وعقولهم وعيونهم عما يجرى فى غزة، تذكروا أن الإبادة الجماعية والتهجير مازالا مستمرين، وأن الجوع والأمراض تهدد حياة مليون طفل فلسطينى، ومن بعيد جاءت إجابة أخرى من صوت لا أعرفه: هذه هى البلاد تلك، هى آثارنا حيث خذلتنا السماء، وخلفها المنفى والشتات الرهيب، تذكرونا حتى لا تأكلوا عندما غضضتم البصر يوم أكل الثور الأبيض، فالأيام دوّارة، والعدو واحد لا جدال