بقلم - عزة كامل
كم من عمر مضى ونحن نجتاز عتبات الرعب والموت؟، ونتساءل من أين تعبر الشمس والسحاب مكسو بالغبار والبيوت أطلال، وقمر الحكايات رحل والنجوم مظلمة، والأفئدة مرايا محطمة، يا وطن مازالت قلوبنا تحمل حطبك وجبالك وحقول زيتونك وأسوار تاريخك ووشم أساطيرك رغم الدم وأشلاء الأجساد والمنفى، مازالت قلوبنا تحمل عرس الطفولة ومواويل الهوى وعطر الجدائل، وزقزقة العصافير وقبلة العاشق، وقهوة المساء، مازالت قلوبنا تحمل البارود وحطام الدار، والحلم.
مازلنا نحلم بدفء الفراش وشمس تحنو علينا، مازالت أصواتنا تغطس فى فحم الليل، وبقايا ظل وطن مستباح، الملح فوق شفاهنا تكلس، والأغنيات قد خمدت، لم يبقَ إلا صوت الدم المغموس فى سادية المحتل، وسقط الخيال واندس فى بئر الفجيعة، والفراغ سلب هواءه وما عادت العيون تبلغ المدى، وانمحت معالم الطريق وبقيت ضوضاء الحرمان والهجر، والظل يتبع قرينه فى صمت، ترافقنا المسامرة، مسامرة النفس للنفس، وموت مجازى.
نحن الحاضر الغائب تبتلعنا هشاشة الحائر المنفى، نتلوى من وخزات الشوك، ومن وخزات سلام لا يتحقق أبدًا، ويمتد الحصار بنا، ويقيد خطوات الليل ويجعل القلب حجرًا على الحافة، خطوة، خطوتان، ثلاث خطوات، تصير الحقيقة كذبًا والكذب حقيقة، ويطول الطريق ويقصر، والغزاة هم الغزاة، فقط تتبدل الملابس والأحذية، طال ليلنا فى الشتات، ونحن نلف فى البرارى الموحشة، نسمع وقع خطانا المحطمة، وتحاصرنا عيون الشهداء، حاملين أكفان موتانا، ونضحك نضحك حتى نزغرد، علمونا «انتظار الأمل»، ولكنهم لم يعلمونا كيف نخفف من وطأة الحصار الجسدى والمعنوى، وكيف ندرب أنفسنا على حب الحياة، وكيف نضىء ليلنا المعتم المبلل بدمع الضحايا؟، أتعرفون ماذا أورثونا؟، أورثونا حكمة الموت والحياة معًا، أورثونا كيف نموت على طريقتنا الفلسطينية الخاصة، وكيف يصبح موت الشهيد فرحًا تزغرد فيه أم الشهيد وأخت الشهيد، بينما تغلق كل النوافذ المفتوحة كلما أرادت حمامة السلام الدخول، وتضيق علينا الأرض لتحاصرنا لعنة الزمن، وكذب مَن يكتبون التاريخ، ومَن يحرفون النشيد الملحمى: «أنا الفلسطينى»، الحاضر الغائب أبدًا، الحقيقة والكذب معًا، الليل والنهار سويًّا، كل شىء وعكسه يعملان بقوة، وتعب السفر الطويل، أحمل الوطن على أكتافى المثقلة، خذلتنى حكمة الأجداد العتيقة، لا ظل لى ولا قمر، لم أعد أسير فى رؤياى وطريقى، كل شىء أصبح منفيًّا تمامًا وبوضوح، لا شعر ولا نثر ولا سرد ولا قصائد تفيض من ليلى، لا مطر يبللنى ولا النار التى أوقدها، لا حب يعبر دمى، إنه زمن العبث القاتل، زمن الجفاف وسبع من السنوات العجاف.