بقلم:عزة كامل
كانت بوادر خريف عندما هبطتْ من القطار حاملة حقيبة السفر، سارت بوجه جامد، وبخطوات مثقلة متوجهة نحو موقف سيارات الأجرة، ركبت السيارة التى كانت تقطع الطريق بصعوبة نحو البلدة، حيث الوحدة الصحية التى كلفت بالعمل بها كطبيبة، قال لها السائق:
أومأت برأسها، قال السائق:
- «كلنا كنا نتساءل عنك وكيف تكونين وعن حالتك الاجتماعية...»، قاطعته وقالت بارتباك: «أنا هنا للعمل وليس للقيل والقال»، شعر السائق بالخجل وقال معتذرا «أنا آسف، لكن القرية صغيرة، وأهلها يشغلهم أى قادم غريب». عندما توقفت السيارة أمام الوحدة الصحية شعرت بقلق عندما رأت النساء بملابسهن السوداء يفترشن الأرض، والممرضة تصرخ فيهن، وكانت الطبيبة «أحلام» فتاة فى الرابعة والعشرين من عمرها، يتيمة الأب، وهذه أول مرة تسافر خارج القاهرة، وقضت معظم عمرها فى الدراسة والتفوق، حتى تحقق حلم أبيها لتصبح طبيبة، وكانت تشعر أن وجودها فى هذه القرية النائية سيكون نقطة تحول فى حياتها.
سحبتها الممرضة من يدها، وصعدت بها درجات السلم المتآكلة، نظرت إلى جدران صالة الاستقبال المتداعية والأرض المتسخة وتنهدت، قادتها لحجرة الطبيب المشرف، وكان فرغ لتوه من الغداء، كان مظهره لا يشبه مظهر الأطباء، بل كأنه تمرجى فى مستشفى حكومى، ارتبك الطبيب عندما رآها، ووقف وهو يمسح فمه بيده، وقال لها: «لم أتوقع حضورك الآن، فالقطار دائما يتأخر عن موعد وصوله، تفضلى». وأمر الممرضة لتحضر لها كوب شاى. كانت الغرفة مشبعة بروائح الأدوية والمراهم والعقاقير، مر الوقت سريعا وهى تساعد الطبيب فى الكشف على النسوة اللواتى يعانين من المرض والاكتئاب والفقر، انتبهت على صوت الممرضة تدعوها للمغادرة، فقد انتهت مواعيد العمل، واصطحبتها إلى استراحة الإقامة التى خصصتها الحكومة للأطباء. الاستراحة كانت قديمة، مكونة من طابقين فقط، أثاثها متواضع للغاية، وفرشها قديم، فى تلك الليلة بعد أن أفرغت حقيبتها فى الدولاب الذى كان يصدر صريرا مزعجا، انتابها شعور قوى بالوحشة، وراحت تنصت إلى الأصوات القادمة من الحقول القريبة، شعرت أن أصابع باردة تعتصر قلبها، انخرطت فى عملها وازدادت وحدتها مع مرور الأيام. فى شفق الغروب وبعد انقضاء أربعة شهور من وصولها للقرية، سارت فى الحقول وراحت ترنو إلى الأفق، وفجأة هبت نسمات حركت الزرع وأوراق الشجر، وطار شالها، استمرّت فى السير حتى وجدت نفسها أمام محطة القطار، اجتازت بوابتها، ركبت القطار ولم تنظر خلفها نهائيا.