بقلم:عزة كامل
بينما الفجر ينشر روائحه الرطبة، وكانت أذيال ردائه الأسود تتطاير وتلفح وجهه، واصل السير وهو يتكلم بصوت هامس: لماذا كل هذا الشر؟ لماذا كل هذا القبح؟ لماذا؟ لماذا؟، تلاقت عينانا، تساءلت: هل هذا حديث هاتفى أم هو يتحدث عن نفسه؟ من فرط ما التبس علىّ الأمر، سرت خلفه، أرهفت السمع، كان يمشى بخطوات منتظمة ويواصل الحديث مع نفسه، وأخذ صوته يتدرج من الهمس إلى الصراخ: لماذا كل هذا التوحش؟ لماذا كل هذا الدمار والحصار؟ لماذا الحرائق فى كل مكان؟ يا الله: ارحم الأطفال، صراخهم المؤلم فى كل مكان، ارحمهم برحمتك، اقشعر صوتى من صرخته الجبارة، وهزتنى موجة من القلق العاصف.
أتأمل السماء وما تبقى فيها من غيم، أتماهى مع الأزرق والرمادى، أمشى على غير هدى، خُيل لى أن صوتا آخر يهمس لى: هل ضمدت جرحك؟ هل تعافيت من وخزات الشوك؟ هل مازالت حياتك قيد التأليف؟ القبح يزداد كل يوم اتساعا كحزنك، ماذا ستفعل؟ هل قهرت الألم حقا، أم قهرك؟.
يرتفع الصوت شيئا فشيئا ويصبح كالذيل؟ لماذا يتآمر الزمن والتاريخ علينا؟، هذا ما تبقى من كلام تفر منه المفردات والألفة، هذا ما تبقى من كلام الخاسرين، ومن الحزن، من نزيف الجرح ومن هوية قيد التأليف، أشعر بقدمى تسير على أرض صخرية لدرب قاسٍ وحيد، تحاول أن تثبت خطواتها حتى لا تنزلق، فجأة صمت الصوت، توقف عن الحديث تماما، وكان صمته المريب بثقل الحجر على قلبى، أصابنى الهلع، أسرعت خطوتى لأسبقه، وعندما التفت لم أجده، الشبح ولى حاملا معه غضبه وصراخه، وضبطت نفسى أكلم نفسى كما لو كنت غيرى، وحدقت إلى الغيوم وإلى هذا الفضاء الموحش، حدقت إلى هذا السراب الخادع، هل كل ما رأيته كان وهما، أم كان شبح رجل محبط ومات من الوحدة، وظهر لى يراوغنى ويغافلنى ويسخر منى باستهزاء؟ أم من فرط وحدتى أتخيل ظلى رفيقى ونباح الكلاب أصوات الأصدقاء، كل شىء يأخذ حصته منى، متى تنقشع العتمة ويجد القلب المتعب استراحة من هذا الكابوس؟ متى تداعب روحى يد حنونة تجعلنى مطمئنة، متى ترسو تلك السفينة المتعبة على مرفأ آمن؟ متى يرحل الخوف القديم الضارب بعيدا فى الزمن ويرفع عنا بؤسه الثقيل الخفى، يرفع عنا مساءاته الكئيبة والغامضة وهواءه الملوث، متى نستعيد الاستمتاع بصوت حفيف الشجر المورق الذى يدغدغ الحواس ويملؤنا بحيوية خارقة تتحدى الزمن.