بقلم:عزة كامل
فى آخر الليل هاتفت صديقتى فى بيروت للاطمئنان عليها، قالت لى: «أنا بخير، اطمئنى، جسدى بخير، ولكن روحى عاطبة لا تجيد قراءة هذا الواقع، كل ما أعرفه أننا منفيون فى وطننا أو ضيوف عليه، الموت يحلق فوقنا، جف الكلام، وخرس اللسان، وفرت الشوارع التى كانت تحملنا، ولم يبق إلا النفق المظلم، وأصبح الخوف نديما، والوجع رفيقا، والدم يمشى فوق الغمام».
ساد صمت للحظات بيننا، وسألتنى وماذا عنك صديقتى؟، قلت لها: «رأسى ثقيل وثمل كأنما أقضى الليل كله فى غابة مظلمة، محاطة بأصوات عواء الذئاب، وفحيح الثعابين، ونعيق الغربان، بعدما تخلى عنى رفاق الرحلة، شىء ما يتحرك فى صدرى وينثر تلك المرارة، ثم يصعد إلى حلقى كالغثاء، أرتعش كالمحمومة، أتجمد خوفا، أسمع صوتَ مخنوقٍ، جسدى كله يرتجف، فالسماء سوداء باكية، لا أحد يجرؤ على إيقاف شلال دموعها، وأنا أنظر إليها، تجيش فى صدرى كل الأحاسيس الموحشة بالحنق والكراهية والمهانة والخجل والغل والسخرية والمرارة، إنه طوفان قبيح كالرذيلة، كعروس هزلت وشاخت قبل عرسها، أو امرأة حفرت الأيام على قلبها الكثير من الخيبات، وحيدة كالعصا الضعيفة فى مواجهة ريح عاصف، فوضى واضطراب، خليط بائس متنافر فى وسط هذا الخواء والظلام البارد الصارم، رأسى يكاد ينفجر، هذه هى مشاعرى وحالتى الآن يا صديقتى».
أنظر إلى السماء المظلمة، أريد الصراخ بكل قوتى ضد ذلك الظلم، ولكن صوتى المبحوح يمنعنى، العالم حفرة سوداء صماء، ليس هناك إلا الهذيان والخداع ومن يلعبون أدوار المهرجين والمفسدين وتزوير الحقائق، كرهت الأوجه الباكية والحزن والأنين والنحيب عويل الأرامل والثكالى، وذلك الابتذال المأساوى القذر الذى يحيط به كل حقارات الحياة، ابتذال يتغلغل بقسوة فى عقولنا ودمائنا، يمثل امتهانا حقيرا لكل ماهو إنسانى طبيعى، ينشر فحيحه الكريه، وينفث سمومه فى الدنيا كلها، كابوس شيطانى أرعن، الحرب، الحرب، الخراب والدمار، صورة بائسة باهتة للمآسى الكارثية، رغم أننا نوهم أنفسنا بأن «القادم أحسن وأفضل، ستتحسن الأحوال وستتحقق الأحلام»، ولكن القادم نراه يضيع، وتسرق منا أحلامنا وأصواتنا وأرضنا وتاريخنا وهويتنا، ولا تبقى إلا الأساطير والتراجيديا المكررة، ما بين البحر والصحراء الموحشة، وحروب السماء الشرسة، وأرواح مدججة بالغضب وأجساد قابلة للانفجار، ونمتهن الموت، ويصبح الأحياء محرومين تماما من أراضيهم وسمائهم، والموتى محرمين من أن يدفنوا فى قبورهم، اللحم العربى يتشظى بتفاقم، والأوصياء يتكاثرون، والجبناء يوقعون على صك البيع والمبيعة والإبادة.