بقلم:عزة كامل
جلست على المصطبة تحت المظلة المهترئة فى الحديقة العامة، تتأمل حالة طفلة الشارع التى تتمدد أمامها بقدميها العاريتين، وملابسها المتسخة البالية، وتتنفس من فمها، تحسست فستانها الأسود المنقط بالأبيض، وحذاءها الأسود اللامع، قطع تأملها نعيق مجموعة من الغربان انتشرت على العشب الجاف، تفتش عن بقايا طعام.
كان اصفرار وجهها وهزال جسمها يشيان بحالتها الصحية المتدهورة، رغم أنها لم تبلغ الستين عامًا، أمضت أكثر من ثلاثة شهور فى التردد على المستشفيات وعدد من العيادات، للفحص والتحليل للتعرف على طبيعة مرضها، كانت آلامها فوق الاحتمال، فاجأتها لفحة صيفية حارة جعلت العرق يتصبب على وجهها، بعد نزعها الإيشارب من رأسها، أدركت أنها لن تستطيع الوصول إلى بيتها سيرًا على الأقدام، فاستقلت سيارة أجرة، تفاجأت بجارتها «ليلى» الخمسينية تقف أمام مدخل العمارة، سألتها: كيف حالك أستاذة «زهرة»؟، فأجابتها يإيماءة من رأسها، تأبطت ذراعها، وقادتها إلى شقتها، شعرت «زهرة» بأنها تريد أن تتحدث معها، فدعتها للدخول إلى شقتها، سعدت ليلى بهذه الدعوة، فقد ظلت على مدى شهرين تحاول إيجاد فرصة سانحة لمساعدتها بعد أن تخلى عنها زوجها بعد معرفته بنوعية مرضها الخطير، وبعد أن نسيها ابنها الوحيد الذى استقر فى كندا منذ سنوات، حتى أختها، آخر أفراد عائلتها، ماتت فى حادث سيارة، كان وفاء ليلى لجارتها الطيبة هو ما حدد المسلك الذى ستسلكه فى اليوم التالى.
دعت «ليلى» «زهرة» لقضاء السهرة عندها، وفى تمام الساعة السابعة عندما فتحت ليلى لها الباب، باغتتها بأناقة ملابسها، والمكياج الخفيف الذى أظهر فتنتها وجمالها، كان الضوء الخافت والحميم ينتشر فى كل أنحاء الصالة، نظرت زهرة إلى ليلى بحب فى الضوء الخافت، عندما كانت منهمكة فى تحضير طاولة الطعام، والتى أحاطتها الشموع من كل جانب، وأدهشها فستان «ليلى» الذى يظهر أكثر ما يخفى من جسدها، أكلتا وشربتا ورقصتا على أنغام الموسيقى الشرقية كأنهما مازالتا فى عمر الشباب، تنهلان من مباهج الحياة، امتدّت بهما السهرة لما بعد منتصف الليل، عندما ودعت صديقتها، كانت صوت خفيض من الموسيقى يصدح عاليًا، وكانت ثومة تشدو: «رجعونى عينيك لأيامى اللى راحوا، علمونى أندم على الماضى وجراحه، اللى شفته قبل ما تشوفك عينيا».
اكتشفت «ليلى» ظرفًا تركته زهرة، فتحته بسرعة، فوجدت فيه رسالة منها تخبرها بمكان النقود التى تدخرها لمصاريف جنازتها، فى اليوم التالى كانت ليلى تمشى وحيدة هى والبواب وراء نعشها.