بقلم:عزة كامل
بزغ فجر يوم جديد، استيقظت «صابرين»، ارتدت ملابسها بسرعة، وغادرت المنزل، وفى المقهى المعتاد لمحته يجلس بمفرده، كان رجلا طاعنا فى السن، وجهه شاحب للغاية، يحتفظ ببعض ملامحه القديمة بابتسامة واهية قطعها صفير حزين من الخارج، مر أربعة وعشرون عاما على آخر مرة رأته فيها، أطلقت زفرة طويلة، شعرت بهمّ عظيم.
تذكرت تلك الليلة عندما انتابتها حالة هياج عارمة، وأخذت تكسر كل ما تقع عليه عيناها، وتخلع صوره المعلقة على الحائط، وتدهسها بقدميها، فاقت من تأملها، جلست فى مواجهته، حبست أنفاسها وهى تحاول النظر إليه، بينما باب المقهى كان مفتوحا، تتأرجح ضلفته مع شدة الريح، وترسل صريرا مزعجا.
بدا كأن الخرس الذى حل بها انفكّت طلاسمه، وانطلقت عقدة لسانها، وأخذت توجه إليه الاتهامات، وبقى وجهه خاليا من أى انفعال، ثم خيم الصمت مرة أخرى، وأخذت عيناه تتجولان فى قلق وسط أرجاء المقهى، لقد منح ظهوره بعد هذه الأعوام الطويلة جوّا من الحزن، فتذكرت قسوته وتعنيفه لها ولأمها، مرضت الأم من القهر، تركهما وسافر وتزوج وأنجب ولدا، تركهما مكسورتى النفس بلا مستقبل، وعمرها ثمانية عشر عاما، عملت فى أماكن عديدة ولم تنقطع عن الدراسة، وأصبحت «مهندسة»، كل ما مرت به كانت سنوات عمرها أقل من أن تحتمل كل هذه الحياة القاسية، ودموع أمها التى لم تكف يوما وأنفاسها الواهنة، والبيت المعتم والأثاث القديم، والجدران الكالحة.
لم تنس ذلك اليوم الذى لاحظت فيه برودة يديها، والرجفة التى تهزها، ونظراتها الغائمة، ماتت الأم وشعرت «صابرين» أنها على حافة الهاوية، قاومت، وعندما بدأ الضباب ينقشع، ظهر أبوها مرة أخرى فى حياتها، أخذت تتطلع باحثة عن كائن ينتشلها من ذلك الكابوس، انتبهت أنه يحدق فى وجهها، كأنه يحاول أن يتذكر شيئا، إحساس بالبؤس والوحدة يطوقهما، هل يتذكرها من خلال وجهها؟، أم أن ملامحها تداخلت مع ملامح أمها؟.
يحاول أن يستعيد وجودها المادى، بدأت تضيق بهذا الجو الخانق، تفكر فى أن تنهى اللقاء وتنصرف، تمتلئ عيناها بالدموع، تنهض وتسير نحو الباب، تهاتف ابنه الذى جاء به وتركه لها بعد أن أصيب بألزهايمر، وأبلغها أنه وأمه يريدان أن يتركا الأب ليعيش معها، لأنهما لن يستطيعا أن يتحملا مرضه، قالت له: «من فضلك تعال وخذ هذا الجسد الذى لا يمت لى بصلة».
أنهت المكالمة ودفعت ضلفة الباب بقوة، وبدأت أولى خطوات رحلتها الجديدة والهواء البارد يلفح وجهها.