بقلم:عزة كامل
فى عصر يوم خريفى، بعدما ابتلّت ملابسها تمامًا بسبب هطول مطر غزير ومفاجئ، صعدت إلى عربة الدرجة الثانية فى القطار، كان أول ما لاحظته رائحة الجبن القديم، والعيش الشمسى المخبوز حديثًا، القطار مكتظ بركاب من مختلف الأعمار والطبقات المتباينة، شىء ما جال فى ذهنها عندما تذكرت مشاعرها المرتبكة والمتأرجحة ما بين الشعور بالذنب والقهر، بعد أن قرر زوجها هجرها، وترك لها رسالة من جملة واحدة: «آسف لم أعد قادرًا على الاستمرار».
معطفها، وتهيأت فى جلستها، ثم وضعت كل شىء فى مكانه، حقيبة يدها، زجاجة الماء، وبينما هى تفعل ذلك، لمحته قادمًا من آخر العربة، شىء ما فى ملامحه جعلها تشعر بالارتياح، بابتسامة لطيفة ألقى عليها تحية خافتة، وجلس بعد أن وضع حقيبته الصغيرة على الرف أعلى مقعدها، كان يلبس سلسلة ذهبية قصيرة وخاتمًا من الفضة بلون العقيق الأحمر.
بدا وكأنه فى الثلاثين من عمره، بسط مقعده إلى الوراء مثلها، لمحت فى الحال بريقًا مميزًا فى عينيه، لم يتبادلا الحديث طيلة ساعة ونصف الساعة كاملة، وفجأة توقف القطار بالقرب من محطة رئيسية، وأعلنوا أن عطلًا حدث للقطار، وسيستغرق إصلاحه عدة ساعات.
التقت عيناهما، ودعاها إلى النزول معه للبحث عن مكان يتناولان فيه القهوة ووجبة خفيفة، ترددت فى البداية، ثم وافقت على استحياء، كان المطر قد توقف لحسن الحظ، وجلسا على مقهى قرب المحطة، كان المقهى يقدم مشروبات ومخبوزات، ضوء المكان خافت وحميمى، شعرت المرأة التى اقتربت من الخمسين أن فصلًا جديدًا فى حياتها سوف يبدأ، لم تعبأ ببرودة الجو، واستمتعت باستنشاق نسيم طازج، جعلها منتشية ومصغية لكلام هذا الشاب الذى بهرتها طريقة سرده الممتعة، فجأة اصطدمت بنظرة منه جعلتها تفقد أنفاسها، ضبطت نفسها تتحدث بهمس وتبتسم، خشيت أن ينخلع قلبها من مكانه، تململت خجلًا، وكأنما تذكرت أنها تكبره بسنوات، راودتها رغبة فى أن تنهى هذا الموقف كله، كيف يمكن أن تفكر فى مثل هذه الأشياء، وقفزت أمامها الرسالة التى تركها زوجها لكى يخبرها فيها بهجرها، وكيف شعرت بالمرارة والمهانة، وجعلها ذلك تظن أنها ضمرت وشاخت.
شعرت بيده الدافئة تجذب كفّها لينطلقا نحو القطار، وكان ضوء القمر يرسل شاعرية على وجهها وجسدها، وينير ظلام الطريق وظلام حياتها، وبينما كانت صفارة القطار تعلو، شعرت أنها فتاة شابة فى العشرين من عمرها تتحرك سنوات عمرها ببطء مع تحرك القطار.