بقلم:عزة كامل
خلعت فستانها، واستلقت على جانبها الأيمن فى السرير الصغير الضيق، لكنه كان مريحًا، وأطلقت دموعها التى كانت حبيسة طوال الليل، نسى الزمن أن يمر بسنواتها الحلوة قبل مرض زوجها الذى أصابه منذ أعوام بعيدة، وبدلًا من ذلك مرت أمامها صور ومشاهد وأحداث منذ رحل عنها أولادها، وبقيت بصحبة الزوج العليل، الذى تحول إلى جسد بلا روح، وقضت أكثر من نصف عمرها مع بقايا هذا الجسد.
لأول مرة، تصطدم بفكرة أنها ستبقى وحيدة تمامًا دون أحد، فموت هذا الجسد هو الحكم عليها بالوحدة القاسية، وهى لا تنشد ولا تتمنى سوى الموت لتكون بجانب زوجها بعد أن يرحل، كانت تلك إحدى المرات المعدودات التى شعرت فيها بالاختناق والخوف والتعاسة.
عبر زجاج النافذة المغبش، اعتادت أن تراه فى الصباح فى نفس الموعد، مر عليها خاطر كان مغريًا ولحظيًّا قبل أن تبتعد عن النافذة، وشرعت تجوب الحجرة كمعتوهة أوشكت على التعقل، ذهبت إلى البلكونة التى لم تدخلها منذ مرض زوجها، جلست على المقعد الخشبى المتهالك، تتأمل الرجل الذى أصابته الشيخوخة مثلما أصابتها تمامًا، واندهشت لأنها لم تنتبه له طوال الثلاثين سنة التى قضتها حبيسة معه بين هذه الجدران الأربعة، وكرست نفسها له بالكامل، داخلها إحساس غامض بأن قصة جديدة توشك أن تحدث وتكون هى ضمن أحداثها، وبينما كانت غارقة فى أفكارها، لم تنتبه إلى أنه كان يلوّح لها ويحييها بابتسامة خفيفة.
فى صباح اليوم التالى، تكرر نفس المشهد، لكن كانت منتبهة له، بعدها كانا يستخدمان لغة الإشارة، ويحتسيان الشاى معًا، وكل منهما فى مكانه يرفعان الأكواب ويتبادلان الأنخاب، اتفقا بأن يأتى إلى شقتها للتعارف، كانت السعادة محتملة فى تلك اللحظة، قررت أن ترتدى فستانًا جديدًا ذا اللونين الأزرق والأسود، وبينما كانت تفعل ذلك سمعت صفير سيارة إسعاف، خفق قلبها بشدة، ارتعد جسدها بشدة وأصابها ذعر، ونزلت بسرعة وتوجهت إلى عمارة الرفيق المنتظر، هبت ريح حارة تحمل نذير الشؤم لفحت وجهها بعنف، رأت حشدًا كبيرًا من الناس حول سيارة الإسعاف التى خرجت من المبنى مسرعة، وكانت تحمله جثة هامدة، وهو يرتدى كامل ملابسه، عادت تجرجر قدميها إلى بيتها، عندما وصلت، أغلقت نافذة البلكونة وأسدلت شيش حجرتها، وأغلقت باب الشقة بالمفتاح، ثم توجهت إلى غرفة نومها، خلعت الفستان الأزرق، وارتدت الفستان الأسود، لحظتها تيقنت أن اللون الأسود لن يغادرها.