بقلم:عزة كامل
سقط القلب وامتلأ بلون البكاء، وكفت الأشجار عن الرقص، ومضت ظلالها صامتة، ولكن أعماقها ترتجف، والعصافير حطت على أغصانها، النهر بلا حب، ونيران عالية لطخت وجه القمر، فصار أسود، وشياطين الليل تقفز فوقه تؤدى رقصتها الماجنة، وزهرة نائمة فى شقوق الصخر والأيام أسيرة الزمن، والنور يهرب.. يهرب، وأنا أجلس فى فراغ من الزمن أرتجف من الأعماق، ومن حولى يركض فرس أشهب، وفوقه السماء متجهمة ترتدى دثارا أسود، لا أصوات، لا صراخات، لا همهمات، لم يبق إلا الصمت، وصفير الريح ورعب الظلال، وحزن الخريف الذى يحتضر.
فى ذلك المساء الزائف، أبدو كالفراشة المبتورة الجناحين، يغلبنى النعاس، أحلم بأغنيات غزلت من أضواء الفجر، أحلم بصوت مفرط العذوبة كصوت الكمان، كغبش الفجر، كطعم أول قبلة حب، كزخات مطر الشتاء، كنعاس طفل رضيع، أحمل فى قلبى عصفورة حائرة تفرد جناحيها، فتصير أوردتى أغصانا خضراء، لكن نبضات قلبى الحائرة تجعل العصفورة تائهة.
يغمرنى دفق من الألوان فى عمق ذلك الصمت، فأبحث عن صوتى، أنصت إلى حفيف الأشجار الجافة، يرن فى أذنى كصفارة غارة، ويجعلنى أشعر بألم ممزق، أتأمل الهامش الفسيح المتدرج، أدرك أن شغفى بالأشياء قد سرق، أنا الكل الكامل الخالى من الحياة، أنا الكل الممتلئ بالفراغ والتعب والضجر، فقط يوجد ظلى العالق بالشجرة الجافة الغافلة عنى.
عبث خبيث يهبط فى نفسى بلا استئذان، كما لو كنت غيرى، كما لو كنت لا شىء، أو نصًّا مرتجلا فى مسرحية هزلية سخيفة، أو جسدا فاقد الذاكرة، يخرج من ذاته ويصاب بالانفصام، فلا أكون أنا ولا أكون الآخر الذى صنعته، اللامبالاة هى الإقلاع عن الحنين، هى فلسفة اللاشىء، فلسفة اللاإيقاع، فلسفة اللاحكمة، اللاتفاؤل واللاتشاؤم، هى فلسفة الشيطان، هى شجرة عاقر، لا تراك فأنت شبح شخص مر بها ولم يستظل بأوراقها الوارفة، وتلاشى من ذاكرتها الحادة، نعم فللأشجار ذاكرة حيّة، تمنيت أن أكون شجرة مثمرة، أو ربوة عالية، أو غيمة فى قصيدة شاعر، أو مقعدا خشبيا يحتضن عاشقين، أو ساعى بريد يكمل الوصل بموعد مستحيل، أنا الآن أحلق فوق نهر الأبدية، كمثل امرأة تبكى فى ركن قصى عندما ترهف السمع لشاعر يلقى قصيدة فى خريف المنفى ليتأقلم مع عزلته المنتقاة، هذا ما تبقى من شدو الغياب والتباس الضوء مع العتمة وملامسة الظل للظل، وهسيس الكلمة فى مفترق طرق مغبش بالضباب، هذه هى أيامنا الحالية.