بقلم:عزة كامل
قبل رمضان بأيام قليلة، قادتنى قدماى إلى قلب القاهرة القديمة حيث شارع المعز بأبنيته الأثرية العريقة، بداية من باب الفتوح حتى باب زويلة، وخلال جولتى بين الأبنية والمساجد والزوايا والحمامات، امتلأ قلبى بهجة لرؤية الفوانيس الملونة التى تتسابق فى إعلان درجات إضاءاتها، وكذلك النجمة والهلال المضىء والمبخرة الرمضانية.
تهت فى سحر وعبق التاريخ، فقد شهد ذلك الشارع عصورا مختلفة، وقفت أمام باب زويلة ببرجيه المقوسين عند القاعدة، ذلك الباب الذى علقت تحته رؤوس رسل هولاكو قائد التتار، ورأس آخر سلاطين المماليك « طومان باى»، فجأة اختفت البهجة التى كنت أشعر بها، وخفتت الأضواء، وبهتت الألوان وأنا أنظر إلى السور الحجرى الذى تشرب بدماء جفت منذ قرون، أرنو وأسمع صوت السيوف، الأفق يغطيه صهيل الخيل وجنون الطغاة، والرقيق يدهسون تحت سنابك الخيل، الدماء منسكبة على مآذن المساجد، والأزقة والبيوت، والأبواب الخشبية المواربة تتلصص من خلالها العيون.
الحياة تتسلل منفلتة من تحت ركام الشر، وتطوف شخصيات طامحة طامعة، وأخرى ضعيفة وذليلة، أسمع رياحا ذات صفير حاد تصفع الوجوه والأبواب، أشعر كأننى طائر مذعور أخافته أصوات المفاصل والرؤوس المعلقة والظلام الذى شيد ستائره، كأنه طوفان أسود جرف الأجساد والقلوب، يصفعنى التاريخ على وجهى فى أفعال متشابهة فى الوحشية، يذكرنى بالمذبحة التى قام بها نابليون فى «يافا»، بعد أن استسلمت حاميتها المكونة من ثلاثة آلاف جندى، وأمر بذبحهم جميعا على شاطئ البحر، وتناثرت الجثث وأتت بالطاعون، باب زويلة يذكرنى بمئات المجازر الذى ارتكبها الصهاينة ضدالشعب الفلسطينى فى القرن العشرين والممتدة حتى القرن الحادى والعشرين، ومجازر غزة الآن التى نفذت بدم بارد ومن دون محاسبة أو أدنى ملاحقة قانونية.
لا أعرف كم من وقت مضى وأنا أتذكر كل تلك البشاعة، انتبهت فجأة إلى صوت صبى يصرخ فى خوف، فقد تعثر وسقط بين الفوانيس والأوانى النحاسية، هرولت إليه وساعدته لكى ينهض، ابتسم ابتسامة متعبة وهو يحاول تسوية ملابسه المتسخة، لا أعرف لماذا ذكرتنى نظرة الصبى بنظرة القطة الصغيرة التى تصرخ لأن أقداما غليظة دهست ذيلها بقسوة، ولا لماذا ذكرنى بكل أطفال غزة الذين دهستهم دبابات الصهاينة العمياء، وقتلتهم وهم ينتظرون مع أمهاتهم الطعام من الإنزال الجوى، وهل الشهر الكريم سينقذهم من هذا القتل المتوحش؟!، وهل يتوقف ماراثون الصم والبكم والعمى الذى يغض البصر عن تلك الإبادة؟، هل يصحو ضميرهم من أجل أن يأخذوا حسنات رمضان المعظم؟!.