بقلم : عزة كامل
فى أحيان كثيرة كانت تراقبه وهو يجلس فى الخلاء على ضوء النار المشتعلة، عندما يكون منحنيًا على جذع شجرة، يدون شيئًا ما فى دفتره القديم، يتوقف عدة مرات أثناء التدوين كأنه يفكر بدقة فيما يكتبه، وأحيانًا كان يقف وسط أكوام القش، التى كانت تحيط بالمكان، رافعًا يديه إلى السماء. فى عصر أحد الأيام ذهبت للتسوق، وعرجت على محطة القطار، فوجدت صورًا لرجل مُعلَّقة على الأعمدة والجدران، لم تستطع تبيُّن ملامحه فى البداية، وعندما اقتربت من الصورة شهقت مأخوذة، إنه هو بعينه، اقترب منها شرطى، وقال لها: هل تعرفينه؟ فأصابها الخرس!.
تلعثمت وهى ترد عليه: أنا.. أنا، لا أعرفه، نظر إليها الشرطى نظرة شك، ثم تركها وانصرف، أخذت تركض بكل عزمها، وهى تبكى فى فزع وتنادى على بناتها. عندما وصلت إلى البيت لم تجده فى مكانه المعتاد.. بعد نصف الساعة سمعت نباح كلاب ضالة وضجة آتية من ناحية محطة القطار.. دق قلبها بعنف، واكتشفت أن عشرة رجال يرتدون ملابس الشرطة ويمسكون بأيديهم بعض كلاب ضخمة، ولكنها متحفزة، تقدم منها قائد الشرطة وسألها: أين القاتل الذى يختبئ عندك؟ واستدار بوجهه ذات اليمين وذات اليسار، وأعطى إشارة غامضة إلى فرقته، فانطلقت بالكلاب تبحث وتفتش، فانطلقت إلى كومة القش وتفحصتها بدقة، لم يكن هناك، ولم يكن كذلك أى أثر لبناتها.
انتفض الرجل غاضبًا: لقد هرب.
لطمت خدها وهى تصرخ: خطف بناتى.. خطف بناتى!.
شقّت الأم ملابسها، مشيت كالممسوسة تبحث فى كل ركن عنه.. أشعلت النار فى ملابسه وما تبقى منه، ساد المكان وحشة.. لا أثر لعابر سبيل، ولا لليالى العذبة على ضوء النار.. لا أثر منه لأى شىء فى المكان، عند الفجر تناهى إلى سمعها نباح كلاب وأصوات كثيرة مختلطة، ظهر رجال البوليس مرة أخرى.. عندما اقتربوا منها هذه المرة، كان أحدهم يحمل البنت الكبرى، التى مالت برأسها على كتفه بشعرها المنكوش وثيابها الممزقة وآثار كدمات وجروح على جسدها، أما الابنة الوسطى، التى كانت تحدّق فى الخلاء، فكانت الدماء تغرق سروالها.. والصغرى كانت مغطاة ببطانية صوف.. ولا يظهر منها شىء.
جرت الأم إليها، خطفتها ووضعتها على رجليها، وأخذت تفتش فيها، وتشم رائحتها كقطة مفزوعة.. لقد كانت جثة هامدة، كانت آثار الخنق واضحة على رقبتها، أخذت تصرخ بهستيريا وجنون: بنتى ماتت.. بنتى ماتت، حتى بُحَّ صوتها.. واختلط بنباح الكلاب وضاع فى الخلاء، بينما كان الصمت مطبقًا