بقلم - عزة كامل
فى ذلك الغروب الحزين، أخذت أتأمل حولى: الشمس تودع ظلالها، وعازف الناى يرتل أغنية حزينة، والعناكب تنسج أعشاشها الحريرية، الصمت يتدفق من الطريق، عندما بدأ المساء ينشر ظلمته، شهدت مئات العيون ضاحكة ساخرة، أخذ قلبى يدور وقفز لذكريات جعلتنى أتعثر، وكانت قدماى مكبلتين بقيود ثقيلة، وكتفاى تنحنيان، بينما يتردد من بعيد وفى اضطراب صدى تلك العيون الحزينة.
يا له من حزن عميق يثقب القمر والشمس، تلك العيون تحولت إلى أجنحة فضية عبرت السماء فوقى، وحملتها الريح إلى الأفق البعيد، وتركتنى وقلبى ملآن بالليل، صرخت صرخة مدوية هزت الصمت الراكد ورجّته، وكسرت راحته، وأطلقت ألم الماضى، ودموع القلوب التى جرحتها عيون الأطفال، ورأيت تحت الأشجار العارية من أوراقها جثثًا ملقاة.
وكطائر ضل طريقه يجرجر فى عتمات الليل جناحيه، أحاطتنى الصرخات المذعورة، وبرك الدم ودوامات النار، والبراكين المندلعة التى تحرق كل شىء، صرخات تُفتت الصخر، وتُرجف سكون النهر، وتُبدد بريق الليل، وتُلقى بالأجساد فى متاهات، وهذيان المدارات الفارغة.
كل شىء أصبح غائمًا ومضطربًا، وتداعَى المساء الصاخب، والفجر العاشق، والنهار اليقظ، وانتشرت العتمة تملأ القلوب والبيوت والعيون والأرواح، قلوب الفلسطينيين، الكل للموت وللجوع، وعجز الخروج من جحيم المأساة يُهيمن بضراوة، والشعور بفراغ قاتم، الأرض تتصدع بهم وتنهار، ويقذف بهم إعصار نحو الهاوية العميقة، ونحو واقع مبتذل ورخيص، بلا لون أو نور.
لا وجود للحظة الساكنة المضيئة، ولا لسلام الأمسيات الهادئة، ولا للوجوه الطيبة المسالمة والباعثة على الاطمئنان، ولا لزهور القلب النادية، ولا لحكايات الماء فى الليالى القمرية، يفتشون عن كل هذا، ولا يجدون إلا مفاتيح البيوت العتيقة المربوطة إلى أعناقهم، مفاتيح لا تشكل إلا السر الذى ينبثق من الحنان الغامض فى وسط هذه الهمجية العنيفة. الحزن ينحدر فوق روحى، ويتساقط كنعاس الستائر التى تغمرها الظلمة، وجراح الموج الهائج، محكوم علينا بالتيه، والسير الإجبارى بلا هدى فى متاهات واقع مفرط الوحشية، مكتنز بالأكاذيب، تضيع فيه الحقيقة والرحمة والعدل والاطمئنان والسلام، فقط لا يتبقى إلا شفقة غاضبة وعاجزة، الكل يبحث عن صوته فى هذا الليل الأصَمّ والأعمى، الصباحات زائفة، والمساءات زائفة، والشرفات مغلقة تمامًا، والأيام رمادية بقوة، والمسالك تختفى وتتبدد، والضجيج الفاجر يعصف بالرأس، وذراع الليل الطويلة تمزق قلب السماء، وأنا لا أصل إلى أى طريق آمن، أحمل التنهدات ومرارة الدرب الخفى الذى أتبعه، مسرعة تمضى الحياة فى أزقة الشيطان ودوامة الأوهام وعذابات الروح، إلى أين نحن نمضى؟، إلى أين نحن نمضى؟.