بقلم - عزة كامل
فى رحاب مهرجان أسوان الدولى لأفلام المرأة، التقيت «رشيد مشهراوى» فى شرفة المطعم المطلة على النيل، وحملنا الحديث عن أحوال «غزة» وصمودها، الذى كان يفيض فى عينيه، وافترقنا لنلتقى لاحقًا فى ندوة أعدتها إدارة المهرجان عنوانها: «الأفلام من المسافة صفر»، وذهبت حيث كان «رشيد» يجلس على المنصة مع المخرجة والمنتجة والكاتبة الفلسطينية «ليالى بدر»، التى أدارت الندوة بحماس وتأثر بالغين، وامتلأت القاعة بالجمهور وصناع الأفلام والنقاد.
حملتنا ليالى بدر إلى غيمة رمادية، وأخذنا «رشيد» فى رحلة شاهدنا فيها رسائل مصورة لشباب فلسطين من صناع الأفلام الموهوبين والمبتدئين فى قطاع غزة، والذين صوروا أفلامهم تحت الحصار والإبادة والقنص والتنكيل. هؤلاء الشباب أصرّوا على تصوير حكاياتهم وسرد قصص لم تُحْكَ من قبل، القصص الشخصية، وتقديمها بجودة فنيات عالية، وتقديم مضمون مغاير، وقدم لنا «رشيد» مقطعًا مصورًا من فيلم يصور تجربة شخصية لأحد الشباب وهو ينام داخل كفن أبيض يقيه من البرد، ولو قليلًا، ومقطعًا لآخر يستحم فى غرفة غسيل موتى فى أحد مشافى غزة، وحكى «رشيد» عن الشاب الذى اعتذر عن عدم صنع فيلمه، وأخبره: «كيف أصور فيلمًا وأنا أبحث عن خبز لأطفالى الجوعى؟»، فأقنعه «رشيد» بتصوير المأساة، وأخبرنا عن مخرجة استُشهدت شقيقتها أثناء التصوير، فلم تستطع استكمال الفيلم، وحكى عن صعوبة صنع الأفلام، وسط انقطاع الكهرباء وانعدام الإنترنت والإصرار على التصوير بأضواء هواتف نقالة، وكيفية عزل صوت «الزنانة»، وهى الطائرة المسيرة الصغيرة التى يطلقها الاحتلال للتصوير والاغتيال والتصفية.
أخبرنا «مشهراوى» أن صوت «الزنانة» سوف يتسيد أرجاء الخيمة التى سينصبها فى مهرجان «كان» القادم، وذلك لعرض هذه الأفلام، ونقل التأثير النفسى والعصبى لهذه الزنانة، التى تُعتبر بمثابة جحيم متنقل.
رأيت فى دموع صديقتى «ليالى بدر» وخفقات قلبها حكايات الشباب الفتىّ فى فلسطين تعانقنا، وددت أن أرفع صوتى من مقعدى وأقول لها: لن يجف ماء القلب بعد يا ليالى، لا شىء يبقى على حاله أبدًا، وسينقلب السحر حتمًا على الساحر، وكما صنعت «غزة» رشيد المشهراوى سينمائيًّا باعتباره ابنها الذى عاش طفولته وصباه وشبابه فيها، ستصنع «غزة» هؤلاء الشباب سينمائيًّا رغم الإبادة والحصار. لن يستطيع الاحتلال رغم آلته الحربية والأمنية والقمعية أن يلغى تاريخ وذاكرة شعب عريق مادام هناك سينمائيون يوثقون حكاياتهم بشغف وإبداع.
فلسطين ستظل حاضرة دائمًا وحتمًا فى القلب والصوت والصورة تغسل صفحة السماء بالإبداع من المسافة صفر.