بقلم - عزة كامل
فى شارع جانبى أسير متعبة فى هذا الصيف القائظ، أصل المقهى، يسعفنى الجرسون بكوب ماء أرطب به حلقى، أطيل التأمل أمامى، أبصر من خلف الزجاج عينى قطة سوداء، تحدق وتخترق أجساد الجالسين وهم يثرثرون، بينما يشربون الشاى ويحتسون القهوة، يغرينى شدو «أم كلثوم»: «ما تصبرنيش بوعود، وكلام معسول وعهود.. أنا ياما صبرت زمان، على نار وعذاب وهوان.. وأهى غلطة، ومش هتعود، ولو ان الشوق موجود وحنينى إليك موجود إنما للصبر حدود»، أى والله يا ست للصبر حدود.
تخطفنى الكلمات إلى زمن بعيد، عندما كان يزدحم المقهى برواده، يمسنى شغف الحكايات، أقلب أحوال قلبى، أرى فى المرآة الصدئة التى أمامى خطين من تعب يحوطان عينى، الذكريات تكبر بهدوء، أرشفها على مهل، أدندن لحنا وأهمس لنفسى: لماذا توقف نبض المقاهى، ولم تعد كما كانت؟!.. لماذا غادر الكتاب والمثقفون المقاهى؟.. يهمس صوت: «لكل عصر مقهاه ولكل مقهى فرسانه»، أرد: كان المقهى يمثل شغفا لكثيرين، يجتمع فيه العشاق والفنانون والشعراء، كان بيت المبدعين والمغامرين والباحثين عن النجومية، هناك مقاه صنعت صيت الأدباء، التقى فيها الأدب النخبوى بالأدب الشعبى، ألم يكن المقهى ملهما، ومادة خصبة لكثير من المبدعين، وألهمهم بشخصيات وأحداث وحكايات ظهرت فى أعمال أدبية ودرامية؟، ألم يكن المقهى للتواصل والونس وطرح هموم الحياة الخاصة والعامة، ومساحة مميزة للمناظرات والمناقاشات، ومكان لقاء أحبة وعشاق عابرين؟.
ألم يكن المقهى فضاء حرا يلهم الطاقات الداخلية لمبدعين ومبدعات، يقفون على الهامش؟، ألم يساهم المقهى فى إثراء الحياة الأدبية والثقافية والسياسية وتجديد دمها؟، الأصوات تسكن رأسى تتعالى: «الخيل أعلم بفرسانها»، الصوت الخفى يدندن شعر محمود درويش: «مقهى وأنت مع الجريدة، جالس فى الركن منسيا، فلا أحد يهين مزاجك الصافى، ولا أحد يفكر باغتيالك، كم أنت منسى وحر فى خيالك»، آه يا درويش، إنه المقهى ساحة معارك المشاعر والأفكار، ضجرت من الانتظار والتحديق خلف الزجاج، حتى الأغانى لم تعد تطربنى، اليوم لا يشبه الأمس، حتى المقعد الخشبى تنازل عن عرشه ولم يعد يشبه نفسه، هل أصبحت غريبة؟، فالغريب يحن إلى أمسه، لماذا لا يوجد فى المقهى شعراء يلهبون الخيال والضمائر، يصفون بشاعة ما يحدث فى فلسطين والسودان، ويعرجون على هموم الوطن؟، هل مات الشعر أم غاب الشعراء؟.. الضباب كثيف على زجاج المقهى والقطة تخربش بصوت عال، ربما ترسم خارطة جديدة للمقهى، خريطة بلا إبداع وبلا مبدعين.