بقلم : عزة كامل
بكت جميلة بو حيرد، بكت بحرقه أثناء مشاهدتها للفيلم الوثائقى «معزوفة الموت قصة مدينة تحاصرها الألغام». المدينة هى بنغازى، بكت جميلة وقالت: قهرتنى هذه الدماء التى تسيل فى ليبيا، وأوجعتنى الكلمات التى قالها وزير خارجية بريطانيا، والذى احتقر الضحايا الذين اغتالهم الإرهاب فى ليبيا، وقال: سوف ننظف الشواطئ من تلك الجثث ونبدأ فى خطط إعادة الإعمار والاستثمار لتتحول شواطئ ليبيا إلى دبى أخرى.
تجاهل الوزير البريطانى آلام الناس وحاجتهم لنزع الألغام وبرامج إعادة التأهيل النفسى بعد صدمة الحرب، صرخت جميلة بصوت مبحوح غاضب: ياليتنى أستطيع أن أذهب للجهاد فى ليبيا بالرغم من سنى، وعندما هدأت وقفت وقالت: (أنا منذ ستين سنة لم أتكلم عن الثورة الجزائرية، سبع سنين دم وغم وحزن ودموع، ناضل كبار وأعطوا الغالى وأخذوا الرخيص، وإذا أردت أن أكلمكم عن الثورة أحتاج إلى سبعة أيام متواصلة واليوم منها بمقدار سنة من الثورة، هذه الثورة التى كان لى شرف المشاركة والانخراط فيها، ثورة كبيرة، ثورة عظيمة، حتى الصغار فيها كانوا أبطالا، أؤمن بأن الشعوب ستنتصر، لأن الحق دائماً يكون مع الشعوب، وربنا يطيل من عمرى وأزوركم مرة أخرى وأحكى، وربما أكتب فى يوم ما عما أختزنه فى حشاياى وفى قلبى).
هكذا ختمت جميلة كلمتها وهى تجفف دموعها السخية التى تحمل كل معانى الحزن والألم والغضب والحب أيضاَ..
فى جلساتنا القصيرة الحميمة معها، كانت تحدثنا عن مصر وحبها الساكن فى قلبها، فنشعر أن هذا القلب يتسع للناس جميعا، وأن دفئاً يتسرب من كلماتها، وابتسامتها الودود، وقوتها التى تنبع من أعماقها، وحين نستمع إليها نفتش معاً عن قصائدنا الوطنية المنسية، ورغم معاناتها نرى فى عينيها نظرة أمل ورحابة، تروى ظمأ الأجيال، وعندما تلوح بأناملها الرقيقة بعلامة النصر نشعر بأننا انتعشنا من جديد وهى بيننا تسمو وتشرئب كأنها تولد من جديد، لتعود صبية تحمل السلاح وتناضل وكل العيون ترنو إليها محدقة فيها إجلالاً وإكباراً وهى تنظر إلينا شامخة مرفوعة الهامة حرة بلا ضجيج.
احتفاؤنا بجميلة تأخر عن موعده كثيراً، لكنها عندما أتت هذه المرة خدشت قلوبنا، دغدغت عواطفنا، وغازلت فينا الحنين إلى زمن أسطورى، نتساءل فى أعماقنا ما الذى يجعل هذه المرأة صلبة كالوتد رغم مرور السنين وتقدمها فى العمر، ربما من آلامها، من نضالها، وشهداء الوطن، والدماء التى سالت، تستمد تلك المرأة صلابتها ووهجها، حملتنا وعبرت بنا لتفتح لنا الأبدية أبوابها، حملتنا على كتفها وعبرت بنا الأزمان، لم يكن لقاء ولم يكن وداعا.
تخطفنا رغبة فى البكاء، تجرفنا صبوة الحنين وننقش اسمها أيقونة على دفتر الليل، تضىء جسارتها ليل آلامنا، مسنا حنين جماعى أمام طلتها، لا كلمات تكفينا لنصف لها أننا مازلنا نحيا فى تاريخها مفتونون بأحلامها، كيف نشفى من حبك يا جميلة، يكفى مرورك لكى نستعيد إنسانيتنا.
مرّ حب من هنا، ومرّت جميلة وبكت فى مهرجان أسوان الدولى لأفلام المرأة لتبقى دوماً فى قلوبنا.
نقلاً عن المصري اليوم القاهريه