بقلم - عزة كامل
عيناى تغيمان، وتختلط الأشياء وتنقلب أمامى لصور كثيرة تتقافز أمامى، وتشوش ذاكرتى، أنظر إلى «اليافطة» المثبتة على واجهة محل البقالة، وأقرأ: «بقالة العائلة ياسين وأولاده»، المحل في مواجهة مقهى السعادة، ويشغل ناصيتين، يأتى صبى المقهى ثلاث مرات إلى محل ياسين ليقدم له كوب الشاى بالنعناع، ابنه البكر «فؤاد»، الذي لم يبلغ السادسة عشرة، قرر ترك الدراسة ليسافر إلى إيطاليا هجرة غير شرعية عن طريق البحر، بعد استيلائه على تحويشة العائلة ليسددها للسماسرة.
بعد ستة أشهر، جاءه خبر موت «فؤاد» غرقًا في عرض البحر هو وكل مَن معه، هرع كل سكان الشارع إلى عم ياسين، الذي وقف يتلقى العزاء، ويردد في نشيج مسموع: «فؤاد مامتش، فؤاد عايش، أنا مستلمتش جثته يبقى مامتش»، وعيناه تذرفان الدموع كأنها دم.
رجال ونساء الشارع يثرثرون عن الكذبة التي يعيش فيها عم «ياسين»، تقاسموا معه الحزن لعدة أيام، ثم شدوا رحالهم إلى تفاصيل حياتهم اليومية، لم يترك ياسين بابًا إلا طرقه، استهلك عدة سنوات في البحث اللامُجدى عن ولده، كان يحدق أمامه دائمًا كأنه ينتظر أحدًا ما، كانت دموعه الغزيرة كفيلة بجعل دموع الرجال تتدفق بغزارة، ودون حساب، سنوات طويلة مرت بظلمتها الحارقة، وبقى الحال كما هو لا يتغير بالنسبة لعم ياسمين، غير أن دموعه كانت قد جفت، وحلمه في رجوع ابنه بهت، وظل يلازمه الهَمّ، وثقلت خطواته كأن قدميه تجرجران أحزانه.
وحده أخى، الذي كانت تربطه بـ«فؤاد» صداقة قوية، وأتذكر عندما جاءه خبر الغرق ظلت عيناه تحدقان بالناس في ذهول، ثم أخذ يركض بغير هدى من شارع إلى شارع، حتى كلّت ساقاه، وأخذنا نبحث عنه في كل مكان، حتى عثر عليه أبى، بعد أن انتصف الليل، جالسًا بجوار سور الجامع، وهو يبكى بلا انقطاع بشكل مرير.
مرت الأيام، والأحزان تُغرق البيوت والمقهى، وتلقى بأنينها وصرخاتها على الكبار والصغار، ذات يوم، لمحنا سيارة تاكسى تقف أمام محل العائلات، وينزل منها شاب، وبصحبته فتاة شقراء، أصاب الجميع الذهول، إنه «فؤاد»، الذي عاد من الموت بعد عشر سنوات، وعندما رآه أبوه سقط مغشيًّا عليه فورًا، تكاثر المهنئون، وانطلقت الزغاريد في الشارع، و«فؤاد» في حالة نشوة، يتقبل التهانى مسرورًا، وتدفق شباب الحى كالسيل عليه وهم يحدقون في الفتاة الشقراء التي معه، والفضول يأكلهم، يريدون أن يعرفوا حكاية «فؤاد»، الذي نجا وحده من غرق المركب المنكوب