بقلم - عزة كامل
الأزرق والأبيض والبنى، ألوان تصنع لوحات عظيمة للغاية، لكنها في الحقيقة لوحات حية وناطقة ومبهجة أيضًا رغم كل ما يحدث، ذات جلباب أزرق وطرحة بنية، دافعة رأسها في صدر صغيرها وهى تحتضنه جثة ملفوفة بكفن أبيض معقود من قمة رأسه.
أم يرتعش قلبها ألمًا ووجعًا على طفلها المقتول، الذي يستريح الآن في حضنها الممزق، طفلها الذي لم تستطع أن تحميه وهو يلهو بلعبته في براءة ذات نهار بيد، ويحمل بالأخرى عَلَم بلاده، الذي كان يرفرف به وسط الدمار والخراب، ذلك العَلَم الذي مزقته وحشية وجنون قذائف العدو، ربما تكتمل هذه اللوحة بوضع وصية الطفل، التي يوزع فيها مفرداته الصغيرة والبريئة وذكرياته القليلة على إخوته وأبناء وبنات أعمامه وأخواله.
الأم تشارك الأب المكلوم، الذي يلوح بأشلاء أطفاله، ويخلع قميصه الممزق، ويسجد، سيتوحد كل منهما مع آلاف الآباء والأمهات، الذين لم يعثروا على أطفالهم الأبرياء، بل عثروا على أشلاء أشلااااااء أشلاء.
إلى أين يأخذنا هذا الجحيم يا رب الكون؟!، جحيم ضباب القنابل وحريق الصواريخ والقتل وهدم البيوت والأرواح وتشريد الناس من منازلهم، ماذا سنفعل بأشلاء الضحايا، والسماء تعَكَّر لونها بالدم؟، ماذا سنفعل بأنفسنا، بعدما لم نعد نحن نحن كما كنا؟!، فغزة تحترق، ولم يبقَ شىء مما بعثرته رياح الغدر وطمسه البحر.
مَن سيُعيد لنا الذاكرة والتاريخ، وسط تخاذل جبان؟!. هي غزة الآن شعلة تحترق وفجر ينأى عنها، ولا أكفان ولا قبور لدفن الموتى، والصقور تحلّق فوق الأشلاء، لقد فاقت المذبحة لغة المجاز والبلاغة، بعدما أصبح أطفالها شيوخًا وآباء وأمهات، ولم تعد زرقة البحر يا «درويش» ترسم رائحة الخبز خارطة للحياة، ولا في زرقة الفجر يستيقظ الحالمون خِفَافًا، ويمشون في ماء أحلامهم مرِحين، فالحالمون الآن يصرخون، ولا يرد عليهم الصدى، بل تمطر عليهم السماء قنابل وجثثًا.
ورغم ذلك، تفاجئنا غزة بمنح هويتها، تصنع مشهدها الخاص في التاريخ، تقف متحدية لعنة الزمن دون أن تفقد صوتها، فقد وُلدت من الجرح نفسه، وستجعل أعداءها يصغون إلى رعد الحجارة، حجارة حنظلة، ذلك الرمز المقاوم، حتى لو خذلتهم السماء، وستظل غزة جرحنا الداخلى ووجعنا ولعنة وعار كل مَن خذلها.
غزة لا تشبه أحدًا، متفردة في حزنها ومقاومتها وبسالتها وجمالها، ورغم الحصار والقنابل والصواريخ وغريزة الإبادة عند الأعداء وتحالف الجبناء عليها ستظل تقاوم، سلام عليكِ، سلام على المقاومة، سلام على شهدائك وكرامتك وعزتك.