بقلم - عزة كامل
لا نعرف من أين ومتى أتى، اعتدنا أن نراه ونحن فى طريقنا إلى المدرسة، يخرج من «أرض الخرابة» مقره، والتى نصب خيمته وسطها، معه كلب وبغلة، وجهه غاضب دائمًا، ورائحة جسمه لا تطاق، أطلقوا عليه «رجل القمر»، لم يحتك به أحد من سكان الشارع، فقد كان مسالمًا، لم يسرق منزلًا أو دكانًا، ولم يتحرش قط بفتاة أو امرأة.
أخذت تتلبسنى نشوة الاكتشاف، أتسلل إلى مدخل «الخرابة»، وأجول ببصرى لأفتش المكان الطافح بالغبار، على الأرض تتناثر زجاجات وعلب العصائر الفارغة وبقايا خبز ناشف، وفى أحد الأركان وتد حديد مشدود إليه حبل يطوق عنق البغلة، اندهشت من صمت الكلب المستلقى على باب الخيمة، ارتعبت عندما طبقت على ظهرى يد ثقيلة وأخذت تهزنى بقوة، كدت أموت من الرعب، وبحركة دائرية وجدته أمامى وصدره يعلو ويهبط وصوت حشرجة أنفاسه يلفح وجهى، كانت أزرار قميصه العلوية مفتوحة، لمحت من خلالها جرحًا بطول صدره، أخذ يحدق ببصر زائغ، ثم فجأة تركنى ونظر إلى السماء.
بينما كنت أنتفض مرعوبة، فكل شىء من حولى صامت، ثم أخذ يصرخ فى الخلاء وهو يدور حولى ويقول «القمر ليس بدرًا، القمر لم يكتمل، ليلة الأربعتاشر جت وهو مجاش.. عايز الكنز المدفون فى جوف القمر»، اعتدت أن أذهب إلى الخرابة يوم اكتمال القمر، وفى إحدى المرات سمعت صوت صبية الشارع يصرخون يحثوننى على الخروج من تلك «الخرابة»، كان رجل القمر يدور فى أرجاء المكان وهو فى حيرة، يتمتم بكلمات غريبة، كأنه يبحث عن شىء ما، والكلب يمسك ذيل بنطاله ويدور معه، أحاول التقاط أنفاسى، تأتينى رائحة التبغ القوية المنبعثة من المقهى الكائن خلف الخرابة، يتصاعد الدخان فوق رأسه، ويلف جسده كله فى سحابة رمادية، أندهش من الضوء الذى يغشى عينيى، أنظر إلى السماء، أرى القمر مكتملًا، ورجل القمر عيناه تبرقان بنظرات غامضة، رائحة التبغ تشتد تكاد تخنقنى، البغلة تقترب منى، أتعثر وأقع على الأرض، لا أستطع الحركة كأن خدرًا أصابنى، أراقب رجل القمر العجيب الذى غاب فى السحابة وحملته بعيدًا.. بعيدًا، حتى ابتلعه القمر.
الصبية يتسللون بخفة ونشاط نحوى ويسحبونى إلى الخارج، فى الصباح الباكر عندما استيقظت، هرولت إلى «الخرابة»، كل شىء كان يوحى بأن رجل القمر مضى وترك وراءه بغلته وكلبه الصامت خلفه، ظللت ضائعة أبحث عن ذلك الرجل «رجل القمر» العجيب، وكأننى فى غيبوبة كاملة من الأحلام الغامضة.