بقلم - عزة كامل
على العتبة أقف وأراقبها، تصدح بصوت قوى بموال شجى، أحب لون جلبابها الفضفاض، والكردان الذي يزين عنقها، وحلق المخرطة الذي يتدلى من أذنيها، وطرحتها المزركشة، تضحك ابنتها «أنهار» زميلة المدرسة، تغمز لى أن أدخل معها غرفة أمها، أجلس مقرفصة بجوارها، أراقب الست «فاطمة» التي تحتوينى بنظرة حنون، وهى تستمر في الغناء، تشبه المطربة الشعبية «خضرة محمد خضر» التي نراها في التليفزيون، وهى من المطرية بلدها، بلد الصيادين بتراثهم الغنائى الجماعى الجميل.
تذهلنا الست فاطمة ونحن نجلس حولها وهى تحكى حكايات شهر زاد، وتسحرنا بتدفق الحكايات، ننجذب إلى خيط حكاياتها، تتوقف فجأة، وتجعلنا في قلق انتظار ما سيحدث، ترفعنا لسابع سما، وتنزلنا لسابع أرض، ونحن نعيش في قلب تبدل المصائر والأقدار، تحكى لنا حكاية «الصياد والجن»، و«أنس الوجود والورود في الأكمام»، وحكاية «الأحدب»، و«سندباد الحمال وسندباد البحار»، وتعرج بنا إلى «مدينة النحاس»، فيختلط الواقع والخيال، وتبهرنا بتقليد «دليلة العجوز وابنتها زينب النصابة»، ترحل إلى عوالم مسحورة: جزيرة «واق الواق»،«العجوز شواهى ذات الدواعى وهى تذبح شركان والغلمان فيما كان الوزير دندان يقرأ القرآن»، وترعبنا بصوت أجش وهى تمسك بخيوط الحكى مرة أخرى في حكاية مدينة المجوس «ولم يزالوا عاكفين على ما هم عليه حتى نزل عليهم المقت والسخط من السماء عند طلوع الفجر، فمسخوا حجارة سوداء وكذلك دوابهم وأنعامهم».
نحلق معها في أمكنة وأزمنة خيالية، تسيطر على عقول وقلوب من يستمع إليها وهى لا تقرأ ولا تكتب، ذات مرة كنت أجتاز العتبة داخلة إلى غرفتها، لم أسمع صوتها، كانت جالسة تبحلق في الجدار أمامها ذاوية وذابلة، حاسرة الرأس، أحسست بأن شيئًا غامضًا سيئا حدث، لكننى رأيت شفتيها تتحركان، واندفعت دموعها حارة على خديها، جاءت «أنهار»، بدا صوتها مخنوقا، هاربا وهى تخبرنى بأن«الست فاطمة» أمها صوتها ضاع، انحبس في حنجرتها، من يومها ظللت أواظب على الذهاب إليها لأحكى لها كل يوم حكاية من حكاياتها التي كانت ترويها لنا، ورغم أنها كانت تنصت لحكايتى إلا أننى كنت ألمح حزنها طافيا في عينيها، رغم أنها كانت تنصت لحكايتى وتلاحظ ارتباكى فتطمئننى بإشارة من يدها أن أستمر، أحكى لها عن حكاية الصياد الذي أخرج العفريت من القمقم، رحلت الست فاطمة عن عالمنا ولم ترحل حكاياتها، فمازال صوتها الساحر القوى يتجلى كلما هممت بقراءة حكاية من حكايات الليالى.