بقلم - ماجد الشيخ
من سيل التسريبات المتلاحقة عن خطة «صفقة القرن» الأميركية، يبدو أنها وقد أعدت خصيصاً لإرضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف، وائتلافه الحكومي الأكثر تطرفاً، لن ترقى إلى مستوى إنهاء الصراع الفلسطيني والعربي– الإسرائيلي، عبر تسوية ممكنة ترضي جميع أطراف الصراع، وتحل نسبياً كامل المشكلات والقضايا المستعصية، فما يجري تسريبه أو توقعه من بنود للخطة الإسرائيلية– الأميركية، لن تتجاوز سقوفها مجرد البدء بعملية إخضاع أولية، تمهد الطريق نحو عملية إخضاعية أشمل، قد تستغرق وقتاً، لكنها لن تنحرف بمساراتها عما ترسمه وتهيئ له الخطة من أهداف، سواء كانت «إنسانية» أو سياسية واقتصادية، عبر ديبلوماسية الفرض والإكراه، وتغليب ودعم صراعات الأطراف الداخلية، في ما بينها فلسطينياً وعربياً، ووضع العصي في دواليب توافقاتهم واتفاقاتهم، وذلك بهدف ابتزاز العديد من مواقف يستفيد منها أصحاب الخطة، لتصب في النهاية في صالح ومصالح كولونيالية الاحتلال الإسرائيلي، ومؤيديه من شعبويي اليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا.
في الطريق إلى البدء بتنفيذ الخطة، يبدو الوضع في غزة عنصراً «اعتراضياً جوهرانياً»، أضحى يكتسب أهمية «الأولوية» المغلفة بطابع «إنساني»، يراد تحقيقه بشكل مستعجل، وفي طيات هذا الهدف تكمن العديد من الأهداف السياسية والاقتصادية المربحة لعدد من الأطراف، ولكنها أكثر ربحية لصالح الإسرائيليين والأميركيين والعرب المطبعين، فيما يراد منها في المقابل أن تعمق الشرخ بين الفلسطينيين، لتستهدف مزيدا من الدفع بانقساماتهم وتقاسماتهم، وتشتيت وتفتيت الهوية الوطنية الكفاحية، بهدف تهيئة هذا الوضع للقبول بعناصر الخطة الترامبية – الإسرائيلية، لا سيما وهي لا تطرح أكثر من كيان فلسطيني هامشي بلا سيادة، أقل من دولة، وليس أكثر من كيان حكم ذاتي محدود الصلاحيات ومنزوع السلاح، وذات اقتصاد ريعي تابع لاقتصاد الاحتلال، من دون عاصمة له في القدس، وبدون اتصال مع الأردن عبر الإبقاء على احتلال مناطق الأغوار، ورفض عودة اللاجئين. وتلك بالتحديد هي مطالب نتانياهو واليمين المتطرف، يدعمه اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، مع الاحتفاظ بكامل الكتل الاستيطانية، وهذا هو هدفهم «الذهبي» لإنهاء الصراع.
على أحد جانبي الوهم المفعم بالحماسة لصفقة القرن، وفي نهاية الأسبوع الماضي كتب المحلل السياسي في صحيفة «هآرتس» عاموس هرئيل «إذا كان هذا بالفعل هو الاقتراح النهائي، فالناتج سيعتبر (دولة ناقصة) بعيدة جدا من المطالب الفلسطينية. ولذلك يمكن الافتراض أن رام الله ستعتبرها نقطة لا يمكن أن تشكل بداية للمفاوضات. وسيكون الإغراء الذي ستعرضه الإدارة على الفلسطينيين هو اقتصادي بشكل أساسي: حزمة ضخمة من الحوافز، وبالتأكيد ممولة جزئياً من دول الخليج العربي».
وفي المقابل وعلى الجانب الآخر من أوهام «حل الدولتين» ما زال البعض الفلسطيني والعربي والدولي كذلك، يقدم استيهامات الوهم على الواقع، في وقت ذهب الاستيطان ومصادرة الأراضي وتهويد العديد من الأماكن في القدس وفي الضفة الغربية، واعتبار القدس «عاصمة إسرائيل الأبدية» ونقل السفارة الأميركية إليها، ذهب كل هذا ويذهب منذ البدء، أو على الأقل منذ بدء تطبيق اتفاق أوسلو، في الاتجاه المعاكس والمضاد لحل الدولتين، فعلى الأرض في الضفة الغربية والقدس، كما في طول الأرض الفلسطينية وعرضها هناك بنى تحتية نشأت وتنشأ، تشجع على جعل إسرائيل كيان دولة كولونيالية، تتماسك على أهداف استيطانية إحلالية واحتلالية مقوننة ومشرعنة، يدعمها يمين شعبوي متطرف، يزايد على توراتية وتلمودية أصحاب الإيمان بالسرديات الخرافية والأسطورية، التي باتت تقود مجتمعاً إنسانياً، يهيمن عليه عالم المال والتجارة ودبلوماسية الحروب المضمرة والمعلنة، وسط مجتمع دولي ينقسم على ذاته، لم يبق من العدالة وللعدالة سوى الشكل والإسم؛ المعاند للحقيقة والواقع، والقيم الأخلاقية والإنسانية ومعايير النزاهة.
في كل الأحوال ينبغي إدراك أن رفض ومواجهة وإسقاط صفقة القرن، ينبغي أن يقترن بإسقاط ورفع العقوبات عن قطاع غزة المحاصر، وحتى لا يترك وحيدا تستفرد به أهواء الذين لا يريدون خيرا لشعب فلسطين، والحفاظ على وحدته الوطنية الكفاحية، فلا الاهتمام الأميركي بغزة، ولا الاهتمام الاقليمي والعربي، يمكنه أن يسقط أو يلغي «صفعة القرن»، إذ إن ما يخطط «إنسانياً» للقطاع لا يستهدف حل معضلاته المعيشية أو الإنسانية والسياسية، بما يكفل استعادة وحدة الهدف الوطني التحرري، وإعادة الروح للمشروع الوطني، واستعادة بناء شرعية المؤسسات التي تكفل استمرار النظام السياسي الفلسطيني على نهج الكفاح التحرري، لا الانحياز إلى ما يضاد هذا النهج، والاندماج في «الدور السلطوي» الذي جعل من التنسيق الأمني مع الاحتلال، قدس أقداس «العلاقة الأوسلوية» التي يراد لها الاستمرار، على حساب ما ينبغي أن تكونه العلاقات الكفاحية بين أطراف جبهوية، في إطار ما يفترض إنها الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث نجحت أهداف التفتيت في نخر مفاصلها من الداخل، ولم تستطع كل الأخطار المحدقة على اختلافها، بالدفع نحو استعادة وحدة المؤسسة الأساس التي تسند النظام السياسي الفلسطيني دستورياً وقانونياً وحقوقياً، نتيجة اختلالات هذا النظام «الرئاسي» وفرديته ومركزيته، وتقاعس وتبعية العديد من قواه ذات المنازع والنوازع الفئوية والانتهازية والنرجسية الخاصة. وذلك هو بالتحديد مضمون أزمات ومآزق الانقسام الوطني والجغرافي، وهو يتحول اليوم أمام أعيننا محاولات انفصال مشهود لها، بدفع من قوى الصفعات الإقليمية قبل الدولية، ومن قبلهما بقوة وضع قيادي وفئوي فلسطيني، لم يعرف كيف يستر عوراته الانقسامية، حتى باتت تتضخم وتتسرطن وتتفشى في كل الجسد الوطني الفلسطيني.
هذا وضع لا ولن يقود إلى التسوية المأمولة، لا عبر الصفقة، ولا عبر غيرها من الصفقات، وانتهاء الصراع ليس قاب قوسين أو أدنى، وفق أحلام المراهنين على استيهامات لا تقارب الواقع، بمقدار ما تحلق عاليا في فضاءات العدم وتقديس المصالح، فالبعض وإن اختار الصراع أسلوب حياة، فإن أسلوب المفاوضات العبثية والعدمية، لا يمكنه أن يفتح الطريق نحو إنهاء الصراع، وبالتالي فإن احتمالات التسوية ليست هي الراجحة اليوم أو غدا، والمستقبل القريب والبعيد سيبقى شاهدا على انفجارات الصراع، لا على انفراجات التهدئة أو السلام المؤجل، لقضية هي في الأساس متفجرة بعبق ورائحة الأرض/ الوطن والحقوق التاريخية وآلام اللاجئين فلسطينياً، ومتفجرة بعبق الزيف التوراتي ومحاكاة الخرافات والأساطير التي تخلق عالماً من القداسات المزعومة، والغيب الذي بات يفضحه الواقع.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع