نعم هناك مشكلة حقيقية فى لغة الخطاب العام التى يتوجه بها بعض المسئولين التنفيذيين الى الناس.. بل يمكن القول، ان هذه اللغة، وما تحمله من معان وأفكار ودلالات، تكاد تتناقض والسياق الموضوعى العاقل الذى نتمنى أن نؤسس عليه للقادم.
إن جزءا من هذا الخطاب القادم من تنفيذيين يسهم فى نوع خطير من خلط الاوراق وتشويش الأذهان، بما لا يحقق الصالح العام، لا للدنيا ولا للدين, وتمتد آثاره وتنفذ إلى مسام الصغير والكبير.. الاستاذ الدكتور عبدالعزيز قنصوة محافظ الاسكندرية الجديد، كان فى لقاء مع الشباب، بواحد من المعسكرات الصيفية بأبى قير، ونقلت عنه الصحف، قولا أراه يستحق التوقف.
قال المحافظ القادم من عالم البحث العلمي، كأستاذ فى قسم الهندسة الكيماوية معنى ببحوث المياه: ان الله سبحانه وتعالي، هو فقط من يحاسبنا على اعمالنا، وهو من يملك الجنة والنار، لذا يجب ألا يحاسب بعضنا البعض.
اولا، ونعمة بالله، لكن ما هو المراد من هذا المعني، لما يأتينا من مسئول تنفيذي؟ وماذا نستشف منه طبيعة الرسالة؟ المعنى كما تلقيته، وفى اجتهاد متواضع، لا يحتاج الى إفاضة فى الشروح.
لنترك عملية المحاسبة، لله عز وجل، ووجوبية ترك عملية المحاسبة على ممارستنا، لله عز وجل.
هل معنى ذلك أن تكف الاجهزة المعنية بالمتابعة والكشف عن دورها فى تعقب المخطئين، وأن نعلق فكرة المحاسبة، وأن نكتفى بأن الله سبحانه وتعالى سوف يقوم بالمحاسبة، للمخطئين بعد عمر طويل؟ الدولة فى مرحلة تثبيت مفاصلها, تتعقب الفاسدين واللصوص، ورئيس الدولة، يعلنها بوضوح: لن يفلت فاسد ولن يكون هناك من هو أعلى من القانون.
هذا الكلام معناه ببساطة، اننا، على اعتبار اننا اعلم بشئون دنيانا، فى دولة تعى الفارق وتدرك أن ترتيب الحياة وتنظيم المجتمع، لا تكون له قائمة بغير حساب بشرى للفاسدين والمفسدين فى الارض، فهل يتسق المعنيان؟ تصريح السيد محافظ الاسكندرية، وما تتخذه الدولة وتحرص على بلورته من حتمية المحاسبة على الأرض؟ ماهى الضرورة التى دفعت برجل البحث العلمي، فى لحظات استهلال مسئوليته فى الخدمهةالعامة، أن يدشن إطلالته، بما أراه خلطا فى الاوراق, ورقة الدين وورقة الدنيا.. هل ينفى ايمان الناس بالله واليوم الآخر، أحقيتهم فى أن يحاسبوا (بكسر السين)، ويحاسبوا (بفتح السين)؟ وهل من رابط بين القناعة الدينية والإقرار بأن الله سبحانه وتعالي، من يملك مفاتيح الجنة والنار، وبين أن يحاسب، بعضنا البعض؟ هذا خلط استغربه، واستحضار ربما لا يكون فى محله، قد تكون محصلته مزيدا من تشوش الاذهان الذى ندفع ثمنه فى ممارسات، تقوض الحياة.
كل ما يخرج عن المسئول، لابد وان يمر بالعقل، قبل ان يصل الى الناس، حتى لو افترضنا أن هذا المسئول، أراد نوعا من التقرب أو التبسط مع الناس، على طريقة البساط الاحمدي... ولكل مقام مقال.. ومقام الخطاب العام للناس يفرض على المسئول وعيا بأى بذور يلقى بها فى التربة، وإدراكا لتداعيات كل كلمة وكل معني.
وإذا أخذنا بما قاله الفيلسوف اليوناني: تكلم حتى أراك، وحاولنا تطبيقه على ما افتتح به الدكتور عبد العزيز قنصوة محافظ الاسكندرية الجديد، سوف يكون حكما صادما وربما يظلم إمكانات لم تأخذ فرصتها بعد. خطاب المسئول ليس جزئية جانية او هامشية، خاصة فى مثل ما نعيشه من ظروف، وحديث الجنة والنار والحساب الإلهي، لا أتصور أن سياقه كان مناسبا، حين تقصر فكرة المحاسبة، بما يوحى إلا حسابا على الارض.
وما دمنا فى سياق الكلام عن الخطاب العام للمسئولين التنفيذيين، فلابد وأن الناس توقفت عند تصريح السيد أحمد عبد الهادى المتحدث باسم هيئة مترو الأنفاق، معلقا على محاولة انتحار الرجل الأربعيني، الذى ألقى بنفسه امام المترو وتم انقاذه وبتر ساقه، قال السيد المتحدث، مختتما بيانا يشرح ملابسات الحادث: إن المترو يعد من أكثر المرافق حيوية فى خدمة الجمهور حيث يستقبل الملايين، وأنه ينبغى الا يكون وجهة للمرضى النفسيين والراغبين فى الانتحار». تعبير لا يخلو من صلافة لا تليق برؤية الضعف الإنساني. على المسئولين أن يدركوا معنى تكلم حتى أراك.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع