بقلم - ماجدة الجندي
دخل المطوّرون العقاريون حياة المصريين، بفكرة «المجمع السكنى» المنغلق والمكتفى بخدماته، ربما قبل عقدين. بدأت الفكرة، برغبة نزوح القادرين إلى مجتمعات مسوّرة، يضمنون فيها حداً معقولاً من الخدمات، تعوّض تردى الخدمات العامة لمرافق الدولة، وفى الوقت نفسه، كانت هناك الرغبة من هؤلاء القادرين، فى ترك مسافة تحول بينهم وبين ما رأوه ونراه من تحول قيمى. التحول القيمى كان أغلبه فى اتجاه ما يجعل المجتمع فى حالة من «السيولة».. سيولة، فى حقيقة الأمر، لم يكن الفقراء وحدهم مسئولين عنها، بل كانت خيارات أو سياسات الاقتصاد، استتبعتها حالة «غض بصر» من الدولة، عن حقوق اجتماعية واقتصادية للأغلبية منزوعة السلطة، أراحت الدولة نفسها، تاركةً عوامل نحر، وتفاعلات اجتماعية، فانتقلت الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم وغيره، من خانة «الحقوق»، إلى خانة «الصدقات»، التى تعتمد على رغبة ومدى أريحية القادرين.. هذا «الغض للبصر» من الدولة، يكاد أن يكون مسئولاً، عن فقداننا، ليس فقط سلامة النمو، وصحة التطور، بل «المناعة الذاتية» لجسم المجتمع، فصار يتآكل ويأكل نفسه بنفسه. أجهزة الدولة، التى غضّت البصر عن الدور المنوط بها، إزاء الناس، جعل كثيراً من «الحقوق»، كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، تنتقل من خانة «حقوق المواطن»، التى يجب الالتزام بها، إلى خانة «الصدقات»، التى تعتمد على رغبة وأريحية القادرين.
على مدى العقدين، لم تعد فكرة «الكومباوند»، أو التجمع السكنى «المسوّر، مقصورة
على الأغنياء والقادرين، كأفكار انسحبت من الأغنياء إلى الشرائح العليا فى الطبقة المتوسطة، ثم إلى العتبات الأولى منها.. بتنا نرى إعلانات عن تجمّعات مسورة لعمارات أشبه «بعش النمل»، وبأذواق أقرب إلى الشعبية، أو المساكن الشعبية، بألوان زاعقة وطرز بلا ملامح، وأسعار ليست بالملايين صحيح، لكن ليس أقل من المليون، والمهم أنها تروج لنفسها بأنها فى «كومباوند».. طبعاً الأمر لا يخلو من طرافة فى الإعلانات المروّجة.. منها من يرغّبك فى شقة بكومباوند سوف تذهب فيه إلى السوبر ماركت «بالمركب»!.. وآخر يؤكد لك، أن امتلاكك شقة فيه، يعنى انتقالك إلى العيش فى فرنسا أو اليونان أو حتى رودس! طبعاً هنا ممكن أن يجد المشتغلون بعلوم الاجتماع، والأنثربولوجيون، أراضى بحث شديدة الإغراء، سواء عن مداعبة الأشواق الهائمة أو حالة «المسخ»، التى تجد تطبيقاتها فى المعمار، أو عن ركوبنا المتأخر فى قطار فكرة التجمعات المسوّرة، بعد أن أخرجتها البحوث المعنية من السياق الصحيح فى المجتمعات، لدرجة أن أمريكا نفسها، أم الاختراع الرأسمالى، صارت تبعد وتنأى عن تخصيص «بيوت» بعينها وفق المستوى الاقتصادى، واتجهت إلى نوع من المزج المقصود بين الطبقات، فتراها فى أحياء نيويوركية، تغرى المطورين العقاريين بمساحات على النهر، بإعفاءات ضريبية تصل لعشرين عاماً، مقابل أمرين: الأول أن يقدموا أنواعاً من التنمية المصاحبة لبناء ناطحاتهم شديدة الحداثة، كالحدائق وحمامات السباحة وملاعب الأطفال، وأن يتاح كل ذلك لكل مَن فى المنطقة، وليس فقط لسكان الناطحات الفاخرة.. وثانياً أن تحصل البلديات على نسبة من هذه الشقق الباهظة، وتقوم هذه البلديات بتأجيرها لفئات اجتماعية مُدعمة اجتماعياً من الحكومة، والنتيجة أن تجد فى نفس البناية مَن يدفع أربعة أو خمسة آلاف دولار فى الشهر، ومَن يدفع خُمس أو أقل من الخمس، والنتيجة هى مزج اجتماعى مقصود، وتطبيق مختلف لفكرة الدعم، لجأوا له بعد دراسات كانت محصلتها فى غير صالح مجتمعات الأسوار.. فى لوس أنجلوس لاحظت أنه حتى النجوم الذين ننبهر بهم على الشاشات، لا يعيشون فى مجتمعات مسوّرة.. ربما حدائق وقصور، لكنها غير مقصية (بالمناسبة روبرت دى نيرو يسكن فى شقة بعمارة مقابلة لحديقة السنترال بارك).. المضى فى مجتمعات الأسوار فى مصر، تجاوز فكرة الإعلان والترغيب المعلن.. صارت الإعلانات تعرف وجهتها، عبر الرسائل الخاصة، منعاً للقيل والقال، خاصة لو كان المعلن عنه موجوداً، فى تجمّع محدود داخل سور، جوّه سور، جوّه سور، والأسعار فيه تبدأ من ستة وثلاثين مليوناً إلى مائة وعشرة ملايين.. ورغم كل الاحتياطات، حدث ما تخوّفت منه الشركة التى تخشى وجع الدماغ، وتسرّبت رسائلها شديدة الخصوصية من واحد (ما بتتبلّش فى بقه فولة).. إلى الصفحات..!!
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع