بقلم : نوال مصطفي
لاتزال قضية »سجينات الفقر» تؤرقني، أحملها داخلي وأسير كوجع مقيم لا يفارقني. كنت أول من كشف عن تلك الظاهرة المنتشرة في سجون مصر وكان ذلك عام 2007، الغارمات أو »سجينات الفقر» كما أطلقت عليهن منذ أن اكتشفت قضيتهن المغرقة في التراجيديا. انتبه المجتمع وتعاطف معهن، وبدأت جمعية رعاية أطفال السجينات التي أشرف بكوني مؤسستها في تحرير أول سجينة، »أميمة» كانت تميمة الحظ والفرج لمئات بل آلاف الغارمات والغارمين، وزاد فخري بتبني الرئيس عبد الفتاح السيسي للقضية وتوجيهه لمؤسسات المجتمع المدني وصندوق تحيا مصر للمشاركة في تسديد ديون الغارمات، بعدها شاركت جمعيات كبري ومنها "مؤسسة مصر الخير" في تسديد ديون الغارمات والغارمين، وإجراء التصالح مع الدائنين ثم الإفراج عن السجينة الغارمة.
مرت القضية خلال الأحد عشر عاما الماضية بمراحل كثيرة، ازداد وعي المجتمع بوجودها، بعدما سلطت الضوء عليها من خلال حملتي الصحفية الممتدة "سجينات الفقر" وأصبحت في بؤرة اهتمامات المصريين الخيرين الذين يسعون إلي عمل الخير بل يركضون سعيا إليه. حمدت الله وشكرته أن جعلني سببا في تحرير رقاب العديد من الغارمات والغارمين في مصر، لكنني وخلال مشواري الطويل معهن لاحظت أن تسديد الدين والإفراج عنها من أجل أن تعود إلي بيتها، وتحتضن أطفالها لتحميهم من شرور الدنيا وقسوتها في غياب الأم لم يحل المشكلة بشكل جذري وحاسم. الكثير منهن كن يعدن إلي السجن مرة ثانية لأن الأسباب التي ألقت بهن في السجن في المرة الأولي لاتزال قائمة. الفقر، الجهل، عدم الوعي بالقانون، استغلال التجار الجشعين لكل ذلك.
بدأت مشروع حياة جديدة من أجل تدريبهن علي حرفة تساعدهن علي كسب رزقهن من خلال عمل شريف، بدأنا بورشة داخل سجن القناطر بالتعاون مع مصلحة السجون ومن خلال بروتوكول موقع بين جمعية رعاية أطفال السجينات ومصلحة السجون، ثم افتتحنا ورشة خارج السجن بحي الهرم لتوظيف السجينات بعد خروجهن من السجن، بالإضافة إلي التأهيل النفسي الذي يجري معهن وأطفالهن من خلال الجمعية. رغم كل الجهود الجادة المبذولة من أجل تحسين حياة تلك الفئة المظلومة، المقهورة، أشعر كلما تعمقت وحفرت في دهاليز تلك القضية الشائكة التي احتلت اهتمامي، وحفزت شغفي من أجل فعل شيء ما لتغيير حياة هؤلاء. إن الحل الجذري، الحقيقي، يجب أن يكون عبر تعديلات قانونية، تتعامل بروح القانون، لا نصوصه المجردة، الصماء.
لذلك أواصل لقاءات التحالف الوطني لحماية المرأة بالقانون ومبادرتي »غارمات خارج الأسوار» وأمس الأربعاء 4 أبريل 2018 كان اللقاء الثالث مع قضاة، وخبراء في التشريع والقانون علي أعلي مستوي من العلم والخبرة، بالإضافة إلي أعضاء البرلمان الذين أبدوا حماسا شديدا للمبادرة المطروحة منذ أكثر من عام ونصف العام نقدم من خلالها فكرا جديدا لعقوبات بديلة تؤديها الغارمة خارج السجن، وهو أسلوب حضاري اعتمدته الكثير من الدول ورأت فيه فائدة للمجتمع والفرد والأسرة.
الغارمة ليس مكانها السجن، لم تسرق، لم تقتل، لم ترتكب أي جرم يستحق السجن، فقط تعثرت، ووقعت في فخ الفقر والجهل بالقانون. لذلك وجب علينا البحث في أعماق المشكلة والخروج بحلول جديدة خارج الصندوق، العقوبات البديلة التي أطلقتها في مبادرتي "غارمات خارج الأسوار" من خلال مائدة مستديرة جرت وقائعها بمكتبة القاهرة في العشرين من يناير 2017 ألقت بحجر في البحيرة الساكنة، وحفزت العقول والقلوب لفعل شيء منطقي ويمكن تطبيقه، تحمس رجال القانون وأعضاء البرلمان للمبادرة وها نحن نقطع أشواطا في اتجاه الخروج بتشريع مدروس، يراعي حقوق الدائن، وفي الوقت نفسه يمنع سجن الغارمة الفقيرة، وبذلك نحمي الأسرة والمجتمع، ونحمي أطفال السجينات من أن يصبحوا قنبلة موقوتة تنفجر في وجه المجتمع لو تركناهم في العراء، بعيدا عن حضن الأم وجدران بيت يحميهم من تجار الشر والجريمة والتطرف.
أول الغيث قطرة، وقد قطعنا خطوات وخطوات في مشوار الألف ميل. وفقنا الله جميعا لما فيه خير مصر وأهلها. آمين
نقلاً عن الآخبار القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع