بقلم - نوال مصطفي
شيء رائع أن يلتقي الكتاب والمبدعون مع قرائهم وجها لوجه، وأن يتحاوروا بلا حواجز أو مسافات. أنا شخصيا أعتبر أن تلك اللقاءات المباشرة بين القراء وكتابهم المفضلين أكبر ميزة يحصل عليها الزائر المهتم بالشأن الثقافي في بلادنا. والأديب الذي يشحنه نبض قرائه ومتابعيه. ويمنحه التفاعل الحي الألق والوهج في كتاباته.
وقد حرصت كقارئة، وكاتبة أن أحضر الندوة التي أقيمت مساء الثلاثاء الماضي بقاعة ضيف الشرف وكان نجمها هو الأديب العربي العالمي واسيني الأعرج لعدة أسباب، السبب الأول هو أنه من أهم كتابي المفضلين، فهو الأديب الذي يملك مفاتيح الدهشة في كل عمل يقدمه. عاشق للتاريخ، ينقب بين ركام السنين عن قصص مدفونة، يسحبها برفق من زوايا النسيان، ليعيد إليها الحياة من جديد، بل ربما لينحت ملامح تشبه القديمة لكنها موقعة بلطشته الفنية المذهلة، وخياله الأدبي الفذ الذي يستنطق الموتي، وينتزع منها اعترافات موجعة، صادمة. وهذا ما فعله مع مي زيادة. الأديبة العربية التي كانت قصتها ولاتزال مصدرا للإلهام رغم صدور عشرات الكتب التي تناولت حياتها من زوايا مختلفة.
أما السبب الثاني الذي دفعني للإصرار علي حضور الندوة رغم دور البرد القاسي الذي دهمني، فهو أنني ككاتبة تشاركت مع واسيني الأعرج حب مي الإنسانة قبل الكاتبة القديرة والمثقفة الفريدة وصاحبة أشهر صالون. العجيب أن الزاوية التي جذبته كأديب ليروي قصة مي، هي نفسها التي حركتني لإنتاج روايتي عنها. ففي رواية واسيني "ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" تصدير علي لسان مي "أتمني أن يأتي بعد موتي من ينصفني" وهو نفس التصدير الذي بدأت به روايتي عن مي تحت عنوان "مي زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ".
الدراما أو فلنقل التراجيديا المكثفة، الصارخة في حياة كانت هي الدافع الذي حركه كأديب بارع يستطيع أن يدخل إلي أعماق الشخصية، لا يكتفي بالصورة التي يعرفها الجميع، بل ينتحت لوحته الخاصة عن الشخصية التي يكتب عنها كما يحسها، ويدرك كم معاناتها. لذلك سيطرت ليالي العصفورية علي مشاعر ورواية واسيني الأعرج، وهي في الواقع أصعب وأقسي فصل في حياة مي. تلك الحياة التي مرت بمراحل منذ الطفولة التي عانت خلالها مشاعر الوحدة والألم المكتوم وحدها في مدارس داخلية، وهي نفس المرحلة التي تشكلت خلالها ثقافة مي، وصقلت موهبتها في الكتابة والقراءة واتقان عدة لغات أجنبية حيث تربت في مدارس راهبات فرنسية. بعدها مرحلة الشباب والوهج الأدبي والثقافي المذهل، من خلال صالون أدبي كان قبلة كتاب وشعراء ومفكري عصرها "عصر الحريم".
كانت مي ظاهرة إنسانية فريدة، مثقفة، كاتبة، خطيبة تؤثر القلوب والعقول، لديها القدرة علي محاورة قامات في حجم طه حسين والعقاد وأحمد لطفي السيد وغيرهم. الجميع أحبها، لكن قصة حبها الوحيدة التي اشتهرت عنها هي قصة حبها لجبران خليل جبران التي استمرت لتسعة عشر عاما عبر الرسائل دون أن يري أحدهما الآخر مرة واحدة. لكن واسيني بعد رحلة طويلة قطعها بين مصر وبيروت وسوريا وفلسطين يتقفي آثارها حتي اكتشف قصة حبها الحقيقية التي لم يعثر عليها أحد قبله وهي قصة حبها لجوزيف زيادة التي حطمت قلبها وهي فتاة مراهقة، ثم تركها ليتزوج من فتاة أخري فرنسية، ولم يكن جوزيف إلا الشر المصفي في حياة مي، فلم يكتف بما فعله بها وهي صغيرة، بل كان هو الشيطان الذي قضي عليها بالكامل وهي في عز توهجها ومجدها، وكان وراء الزج بها إلي "العصفورية" مستشفي الأمراض العقلية ببيروت!
رواية واسيني مذهلة ككل أعماله السابقة، بقي أن أذكر أنه ذكر في ندوته بكل سعادة وتواضع أن روايتي عن مي كانت من أهم المراجع التي قرأها واستفاد منها أثناء بحثه وإنجاز مشروعه عنها، وقال لي بترحيب "سعدت جدا بجائزة الدولة التي حصلت عليها عن هذه الرواية".
والآن أعكف علي إصدار الطبعة الرابعة من "مي زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ" بعد إضافة بعض الفصول، لتصدر طبعة مزيدة ومنقحة.
نقلا عن الاخبار القاهريه