بقلم - عائشة عبدالغفار
عندما أْعلن دونالد ترامب انسحاب القوات الأمريكية الموجودة فى سوريا إلى جانب الأكراد، فيبدو أنه اتخذ يوم 19 ديسمبر 2018 أحد قراراته الأكثر تعسفا.. ولكى يبرر هذا القرار الحاسم الذى أراد أن يمرره وكأنه إيماءة تاريخية قال «إن سوريا ضائعة منذ زمن بعيد ونحن نتحدث عن رمال وموت.. ولا نتحدث على سبيل المثال عن ثروات طائلة». لاشك أن خسائر أمريكا بعد هذا الانسحاب من سوريا عديدة وعلى رأسها هشاشة المعركة التى كان لابد لها أن تستمر ضد داعش، إهمال وهجرة الدول الأكثر ارتباطا بالولايات المتحدة فى معركتها ضد الإرهاب على الأراضى السورية وعلى رأسها فرنسا، خيانة تحالف الغرب والقوات الكردية فى سوريا والمتضامنة مع الميليشيات العربية المناهضة لبشار الأسد، التسهيلات المقدمة لنظام دمشق لكى يستعيد أراضيه، شيك على بياض مقدم للرئيس التركى أردوغان ليقضى على المقاومة الكردية الممتدة على مجمل شمال شرق سوريا من الفرات إلى الحدود العراقية رغم انها كانت قد نجحت فى طرد الجهاديين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية بشجاعة، ووضع اليد النهائى لروسيا فى قلب الشرق الأوسط والتقدم الحتمى للإيرانيين فى المنطقة وفقا للمراقبين وخبراء الشرق الأوسط.. إن فهرس هذا الدمار وهذه الأضرار أقنع فى النهاية الرئيس الأمريكى بأهمية تصور انسحاب يتم ببطء.. لقد قدم اذن ترامب تنازلا لمن يطلق عليهم «جنرالاتى» أى ضباطي.. كما ضاعف مستشاره جون بولتون الالتفافات والدوران ليطمئن الإسرائيليين والأوروبيين والأكراد اليائسين.. وسوف ينسحب نحو ألفى رجل من القوات الأمريكية الخاصة فى نحو أربعة أشهر. وإنما رد فعل الرئيس ترامب يعكس عناصر أكثر عمقا كما أدلى المحلل السياسى كريستيان ماكاريون، فبالنسبة لواشنطن فإن سوريا لم تعد رهانا حاسما أو قاطعا مادام ان روسيا وإيران قد حصلتا على النصر فى مساندة بشار الأسد. إن ترامب يريد أن ينتقل إلى مرحلة ما بعد الصراع.. إن أسلوبه الفوضوى والنرجسى المتواصل يخفى نية منعطف استراتيجى جوهري، حتى إذا كان الانسحاب المفاجئ يضع الحلفاء الأكثر اخلاصا لأمريكا ظهرهم فى الحائط! بالطبع هناك انشغالات وحسابات خاصة بالسياسة الداخلية.. إن ترامب يداعب ويلامس ويمتدح المشاعر الشعبية المسيطرة التى تشجع تحرر الالتزام الأمريكى والذى وعد به مرارا المرشح الجمهورى خلال الحملة الانتخابية وإنما أبعد من ذلك فإنه يفتح بطريقة فجة الجدال الرئيسى نحو مستقبل الالتزامات العسكرية الأمريكية، هناك ثلاثة أسباب وراء هذا التراجع: أهمها التركيز على المواجهة الاقتصادية والجيوبوليتيكية الأمريكية مع الصين وهذا يتطلب وقف تشتت القوات فى الشرق الأوسط بما فيها أفغانستان من ناحية أخرى وفقا لعدة خبراء، فإن بقاء الفى رجل فى سوريا لا يتمتع بأدنى فرصة فى التأثير على إصرار بشار الأسد بإعادة سيطرته على كل الأراضى ولا على تورط الروس والإيرانيين.. إن الغياب الشامل لوضوح الأهداف الأمريكية فى سوريا أشد خطورة من الانسحاب.. وهناك تيار عميق داخل أوساط التأثير، يدافع منذ سنوات عن وجهة نظر تناهض بإصرار أى استثمار عسكرى فى سوريا.. ومنذ عام 2013 نشر ادوارد لوتورك خبير الجغرافيا السياسية دراسة كان لها صدى مدو قال فيها: «ان حكومة أوباما يجب أن تقاوم إغراء التدخل أكثر من ذلك فى الصراع السورى ومهما يكن المنتصر، لم يكن هناك إلا مخرج مؤسف للولايات المتحدة». أمريكا فى الشرق الأوسط تحافظ بالطبع على مصالح ضخمة، وإنما لم يعد لها منظور!.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع